وصلت معدلات الانتحار لديه إلى مستوى قياسيّ …لماذا جيل الألفية غير سعيد؟
“زمانكم غير زماننا، نحنا لما كنا بعمركم” …عباراتٌ وأحكام يتفنّن آباؤنا بإطلاقها على وقع مسامعنا، مقارناتٌ مبطنة باستعراضات بائسة لإشعارنا بمدى سهولة حياتنا ورغد عيشنا واستنكار واقع أنّ جيل الألفية غير سعيد.
أن تكون شابًا في هذا العصر يعني وقوعك في معضلةٍ لا يمكن تفسيرها أو التكهن بأبعادها. نحن اليوم أكثر ثراءً وصحةً وتقاربًا من أيّ وقت قد مضى، يسارع آباؤنا وأجدادنا إلى تذكيرنا بذلك عندما يستشعرون تأفّفنا من صعوبةٍ ما في حياتنا. لا يقتصر الأمر على داخل منازلنا، فمع إشراقة كلّ يوم تلاحقنا آلافٌ من الإعلانات والأخبار المسيّسة لتخبرنا من نكون وماذا علينا أن نرتدي وكيف يتوّجب علينا أن نعيش. لنبقى محاصرين داخل أسوار سجن المقارنة تحت وطأة معايير وقيود مجرّدة من الرحمة والإنسانيّة.
جيلٌ جديد بين التهويل له والتعويل عليه
تتمحور الصورة النمطيّة السلبية لشباب اليوم، المعروف باسم جيل الألفية (Millennials) المولود بين عامي 1981 و 1996، في إطار الحساسيّة الشديدة للنقد، والتمركز حول الذات، والوقوع ضحية النرجسيّة والأنانية، مع انعدام القدرة على التعامل مع ضغوط الحياة الواقعية. لكن على الجانب الإيجابي من تلك الصورة النمطية، نجد ميزات عديدة تتمثّل بالانفتاح والتنوّع والتعاطف ووجود رغبة حقيقيّة بإجراء تغييرات جوهريّة ومهمّة في العالم الذي نشأوا فيه.
على الرغم من عدم وجود معايير ثابتة بشأن جيل الألفية، سوى أنّهم نشأوا في بيئة خاضعةٍ لاستراتيجيات الآباء والأمهات النرجسيّة وسط عالمٍ قائم على الإشباع الفوري لرغباتهم. فقد جاءت عملية المخاض وولادة جيل الألفية مع عصر التقنية والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وحركة العولمة، لتتمّ برمجة مسار حياتهم وفق تقلّبات عصر السرعة، فمن ناحية هم أكثر اطلاعًا وانفتاحًا على الثقافات الأخرى، وعلى النقيض بقيت تهمة الكسل والاعتمادية تلاحقهم كظلّهم.
أزمات خانقة من كلّ حدبٍ وصوب
الحقيقة هي أنّ جيلنا هو أسوأ جيلٍ نشأ منذ أكثر من 50 عامًا، قد لا نضطر إلى العمل في المصانع والمهن التقليديّة، أو حتّى تكوين أسرة في أوائل العشرينيات من عمرنا، لكنّ معدلات الانتحار لدينا وصلت إلى مستوى قياسيّ غير مسبوقٍ.
فحوالي ثلث طلاب هذا الجيل يعانون من الاكتئاب الشديد خلال مرحلة حياتهم الدراسيّة أو الجامعيّة. لقد أصبح الانتحار في مقدّمة أسباب الوفاة بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و 24 عامًا.
بالإضافة إلى ارتفاع حدّة التنافس على تلك الدرجة أو المكانة العليا في أعلى الجامعات، مولّدةً ثقافة الغيرة والاستحقاق التي لم نرغب بها.
كما فتحت صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي بابًا لإطلاق الأحكام المسبقة علينا بلا هوادة مع كلّ تعبير أو تفاعل نطلقه، أصبحنا على خشبة مسرح نجهل أذواق جمهوره وتوجّهاتهم. نقارن حياتنا المنقوصة بكلّ من حولنا، بينما في الواقع جميعنا نكافح ونقاوم في معارك لا علم لأحدٍ بها.
معضلة الاختيار وتقرير المصير
قيل لنا أن نترك أحلامنا دون رقابةٍ حتّى نصل إلى الوجهة العمياء التي تمّ تفصيلها على أهواء لا تناسبنا. إنّ رحلة حياتنا حتّى سن 18 -ويمكن القول بعد ذلك- هي ببساطة واقعٌ لا نملك رفاهية تقريره. حيث أنّ أهدافنا ومصيرنا بقبضةٍ لم نختر أن نمسك بها، أغلب أيامنا وأنشطتنا تخضع لتنظيم ورقابة شديدة لا يمكن الخروج بسهولة عن طوعها.
حتّى عند النظر إلى حفنة المحظوظين من جيلنا لامتلاكهم أسرة داعمة وموارد وفرصًا كثيرة، نجد من رسم لهم الطريق وطلب منهم اتباع وجهةٍ محدّدة، مقنعين أنفسهم بجمالية ما تمّ تفصيله على مقاس لا يناسبهم.
الأهمّ من ذلك، في عالمٍ تتواجد فيه فرص أكثر ممّا نتخيله جميعًا، قد لا يساعدنا نظامنا التعليميّ بأي شكلٍ في تحديد الحياة التي نريد أن نعيشها، أو اطلاعنا على المشكلات التي قد نرغب بحلّها. في الواقع، إذا كنت ملتزمًا بالنظام التعليميّ الحاليّ فستبقى رهين الطريقة نفسها التي بدأت بها دون امتلاكك أدنى فكرة عن شغفك الخاصّ.
البقاء في منطقة الراحة أمام تعدّد الاختيارات
ينبثق السبب الأساسي لشعورنا بالتعاسة من طريقة تعاملنا مع حالة الكسل والخمول التي تعترينا بمرحٍ مخاتل يضمن تحييد مشاعر القلق والخوف وتعزيز الشعور بالأمان الزائف داخل منطقة الراحة الخاصّة بنا. بدل أن يشغلنا التفكير والعمل على تحسين حاضرنا لبناء المستقبل الذي نطمح إليه، ليكون مصدر قلقنا الأوّل في كلّ يومٍ نستيقظ فيه.
ربّما تتمثّل السمة الرئيسة التي تُصعّب حياة هذا الجيل، في انفجار الاختيارات من حوله، التي قد تصل به إلى حدّ العجز عن الاختيار. بالطبع، إنّ وجود العديد من الاختيارات قد يكون أمرًا جيّدًا، لكنّ تزايد هذه الاختيارات سيؤدّي بالإنسان إلى ما يسمّى بشلل الاختيار. حيث إنّ مواجهة بعض الشباب للكثير من الخيارات المطروحة أمامهم وسط محاولة التمييز بينها، يوقعهم في مأزق الارتباك والحيرة مع عدم القدرة على اتخاذ أيّ قرار على الإطلاق.
مخاوف مستقبلية بشأن العمل والمال
جميع المخاوف الواقعيّة التي تنتاب جيل الألفية حيال الأمور المتعلّقة بالمال، تخبرهم بأنّهم سيكونون أقلّ نجاحًا من آبائهم بل قد تجعلهم أسرى قيود الفشل في إعالة أنفسهم على المستوى المعيشيّ مع فقدان الثقة بالحكومات والمؤسّسات الدينيّة والمنشآت الاجتماعية، ممّا يخلق شعورًا بالضعف والعجز أكثر من أيّ وقت مضى.
بالطبع إنّ المال هو أحد النقاط المحورية الأكثر إثارةً لأزمات وتحدّيات جيل الألفية. إذ يواجه الكثير منهم صعوبةً في العثور على وظائف مستقرة، فالبعض منهم ما زال يعيش مع أسرته وسط مخاوف جديّة بشأن كسب ما يكفي من المال لبدء حياته الخاصّة.
يواجه شباب اليوم صعوبات ماليّة أكبر من تلك التي واجهتها الأجيال السابقة. ما يقرب من 30٪ من جيل الألفية يعدون أنفسهم أقلّ رفاهيّة ممّا كانت تطمح إليه توقعاتهم قبل 10 سنوات. حيث بات توفير المال تحدّيًا أساسيًا وسط أزمات تضخّم ديون قروض الطلاب، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتخبّط سوق العمل. إنّ أكثر من 56٪ من خريجي الجامعات اليوم يشغلون وظائف لا علاقة لها على الإطلاق بشهاداتهم. كما أنّ 48٪ منهم سيستقيلون أو يطردون من وظائفهم الأولى في غضون 18 شهرًا من بدئهم.
رقابة دائمة تحت مجهر العالم
نحن عالقون في عالمٍ يتغيّر بسرعةٍ كبيرة لدرجة أنّنا نحاول جاهدين التأقلم معه ومجاراته، ومع ذلك ما زلنا متخلّفين بخطوة إلى الوراء. نملك حرية الانخراط في العديد من العلاقات العارضة والسامّة، مع علمنا المسبق بحتميّة الانفصال. نتنقّل بسرعةٍ من مدينة إلى أخرى، تاركين وراءنا كل الصداقات السابقة لنبدأ من جديد في كلّ مرة.
في حال تواضعنا قليلًا وتسامحنا مع فكرة المقارنة بالجيل السابق، نحن اليوم أكثر قدرة على المنافسة مع وجود ما يكفي من الفرص المتاحة والمتنوّعة التي تصطدم مع كثرة عوامل التشتّت من حولنا. يتملّك الطموح الصارخ سحنة وجوهنا، لكنّ للإحباط مساحةً دفينة في ذواتنا. لقد جعلنا عالم الشبكات عبر الإنترنت أكثر انفتاحًا وتقبّلًا للمحيط من حولنا، لكنّنا من الداخل أصبحنا أكثر انغلاقًا وتقوقعًا.
تتمثّل المأساة الكبرى في التكهنات التي سيؤول إليها مستقبلنا الضبابيّ، عندما يكون العالم في حاجة ماسّة إلى جيلٍ شغوف وملهم للتعامل مع الجيل القادم من المشاكل المجهولة. ستبقى الحيرة سيّدة المشهد القادم، لكن أين المجد في أن تنتهي مسرحية الحياة بالوقوف على الأطلال والتحسّر بـ “ألا ليت الشباب يعود يومًا”.