لولا خصالهم السيئة لمتنا جميعًا…لماذا نحتاج الأشرار في حياتنا؟
قد تستغربون من عنوان هذا المقال، وقد تتساءلون حول جدوى البحث عن ضرورة وجود الأشرار في حياتنا، فمنذ الطفولة ونحن نحارب الأشرار في القصص والروايات، ونسعى للقضاء عليهم وإنهائهم كي نستطيع العيش بسلام ومحبة ووئام.
ومع تقدمنا بالعمر، وامتلاكنا للقيم الأخلاقية التي تميز بين الصواب والخطأ، نغدو أكثر إصرارًا على أننا لا نريد لحياتنا أن تكون قريبة من الأشرار وغير المحبين، وأن لا تلامس أولئك الذين يرغبون بالأذى، ولكننا في كل يوم نكتشف أن هذه الحياة لا يمكن لها أن تستمر بمعزل عن كل المكونات الإيجابية والسلبية، الخيرة والشريرة، وهذا يضعنا أمام التساؤل الأساسي الذي انطلقنا منه: لماذا نحتاج الأشرار في حياتنا؟
من هم الأشرار؟
يعتقد الكثيرون أن الإنسان يولد شريرًا بالطبع، أو يمكننا القول بأنه يولد ميالًا للشر والأذى، ويعد الفيلسوف هوبز صاحب هذه الفكرة، انطلاقًا من رؤيته بأن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وأن ما يقوم به الإنسان من خير يكون رهنًا بالقوانين والضوابط الأخلاقية والاجتماعية التي تلزمه حده وتقيد أفعاله.
ولكن إذا كان هذا الكلام صحيحًا، ألن يكون من الصعب أن نجد من يفعلون الخير مقتنعين راضين؟ وسيكون كل شخص مضطرًا لتطبيق القانون لكن دون رغبة، وسيتحول المجتمع نتيجة لذلك إلى حالة من العلاقات الباردة التي لا يشعر فيها الناس بالرضا والسعادة؟
في مقابل ذلك؛ وجد جان جاك روسو أن الإنسان يبقى طيبًا ونقيًا طالما كان بعيدًا عما يحدث في المجتمع من فساد وسوء، فالحالة الطبيعية للإنسان هي الخير، وهو يفسد في المجتمع.
وبعيدًا عن نقاشنا حول الطبيعة الأساسية المكونة للإنسان، نميل للاعتقاد بما قال به الفيلسوف العظيم سقراط، عندما ربط بين الشر والجهل، مبينًا أن الجاهل شرير بالطبع، لأنه لا يعرف الخير، ومن لا يعرف الخير لا يفعله، فالفضيلة معرفة والرذيلة جهل.
وفي الحقيقة، ليس من المنطقي اعتبار أن الإنسان يولد خيرًا بالمطلق أو شريرًا، فنحن أنفسنا تارة ما نقوم بأفعالٍ جيدة وخيرة، وقد نجد أننا نقع أحيانًا أخرى تحت وطأة أفعال شريرة، وربما هذا يجعلنا نفكر بطريقة مخالفة لآراء الكثير من الفلاسفة والمفكرين، ويضعنا أمام فكرة منطقية بامتياز، ألا وهي أن عالمنا هو عالم المتناقضات، وأن الشيء في الحياة إما أن يتصف بصفة ما أو بنقيضها، وهذا ما يجعل عالم المقال يكتمل بلغة المنطق، وعليه فإن الحياة فيها الشر واللاشر (وتجاوزًا بمكننا تسمية اللاشر بالخير).
إذًا الأشرار هم أشخاص يعيشون معنا وبيننا، وأحيانًا يكونون من أقرب الناس لنا، يختارون أفعالًا تضر بالآخرين بإرادتهم، بديلًا عن أفعالٍ يشاركون من خلالها العالم بطريقة إيجابية، إنهم يفتقدون إلى الحب، ولم يجربوا شعور أن يكونوا محبوبين، وأحيانًا لا يهتمون لذلك.
عالمٌ بلا أشرار…
تعالوا لنتخيل عالمًا لا وجود فيه للشر، عالمٌ مليء بالأفعال الخيرة والصالحة، ستكون هذه الحياة حسب ما نعتقد جميلة لا وجود للسوء فيها، ولكنها في الحقيقة تفقد معناها، فالحياة منذ وجود الإنسان على سطح الأرض كانت عبارة عن جملة من المتناقضات التي تعطي لحياتنا قيمة، فالجمال يبرز ويتبلور في مقابل القبح، ونحن لا نستطيع أن نعرف قيمة الحق والعدالة إن لم يكن هناك ظلمٌ وتعدٍّ على الحقوق.
يذكرنا هذا الكلام بالحكمة الصينية التي تقول بصراحة أن العالم مكون من المتناقضات التي تجعل الين في مقابل اليانغ، السكون في مقابل الحركة، الظلام في مقابل النور، الشر والخير وغيرها من القوى التي تتجاذب فيما بينها وتتنافر، وقد يطغى أحدها على الآخر حسب اختيارات البشر، فهناك من يختار الخير ويفضله على الشر، ويكون مسؤولًا عن اختياره، وفي المقابل هناك من يجد في الشر غايته ويسعى بكل طاقاته لتحقيق رغباته مهما كانت النتائج مضرة بالآخرين وأحيانًا مضرة به نفسه.
وعليه؛ لا يمكن الحديث عن عالم بلا أشرار، فالشر مكون أساسي من مكونات الحياة الإنسانية، إنه قيمة أخلاقية سلبية، يسير البعض وفقًا لها، ويرفضها آخرون، وهذا ما يجعل القيم الأخلاقية نسبية رغم مطلقيها، فهي بالمفهوم الأفلاطوني مطلقة وموجودة في عالم مثالي خاص بها، ولكنها في عالم الموجودات المحسوسة هي نسبية ومتغيرة.
من ناحية أخرى يبدو وجود الشر ضرورة تبرر وجود إله كامل القدرة قادر على استئصال الشر من جذوره، وعلى محاسبة فاعله، إنه يعطي التبرير المنطقي للإنسان كي يؤمن، فوجوده يكسب المؤمن قوة غريبة تجعله يتحمل كل المظالم التي قد يتعرض لها على أمل أن الله القادر سيحقق الخير يومًا ما.
كيف يمكننا التعامل مع الشر الموجود في العالم؟
إذًا؛ فالشر أمر لا بد منه، بل ربما نحن نحتاجه بشدة في حياتنا، لأنه مكونٌ أساسيٌ من مكونات حياتنا التي نعيشها، ولذلك علينا أن نتعلم كيف نتعامل مع كل الشر الموجود في العالم، فطالما لا نستطيع تغيير الواقع فقد يكون من الممكن التخفيف من وطأته علينا، وهذا يعني بالطبع أن نختار ما يجعلنا سعداء بما لا يسبب الأذى للآخرين.
نحن لا نستطيع أن نلغي الحروب في العالم، ولا يمكننا أن نجعل زوجة والد سندريلا تحبها، ومن غير الوارد أن نحقق العدالة المطلقة التي استطاعت أن تحصل عليها الأميرة النائمة، ولكننا نستطيع أن نجعل من الأبطال أكثر قوة في مواجهة الشر المتكون في العالم، نحن نستطيع أن نعزز القيم الأخلاقية ونزيد من معنى الحياة في مواجهة الموت، فرغم عدم القدرة على إلغاء الحروب مثلًا، يمكننا ألا نكون شركاء فيها قدر الإمكان.
ومع ذلك لا يمكننا أن نغفل عن أننا نكون تارةً أشراراً وتارةً خيرّين، ونبرر الشر الذي قد نقوم به تحت مسميات عديدة، فمثلاً عندما نقوم بقتل حشرة مكروهة وتسبب لنا الشعور بالقرف كالصرصور أو الذبابة، نبدو أناساً عاديين لا بل يطلق علينا أسماء محببة، كأن يقال عنا أننا محبون للنظافة، ولكننا إن قمنا بقتل فراشة ما سيكون سلوكنا شريراً، فقط أن للفراشة مكانة في حياتنا، فهي جميلة من وجهة نظرنا، وكائن حي لا يستحق الموت.
ولكن كيف يمكننا تبرير كل ما سبق، أوليست الذبابة أو الصرصور كائنات حية وضعيفة بالمقارنة معنا، ولا تستحق الموت؟ ألا تمتلك الحق بألا تقتل بوصفها كائنات حية كما الفراشة التي يتغنى بها الشعراء؟
وربما يكون لوجهة نظر الفيلسوف الألماني نيتشه موقعًا ضمن هذا الكلام، فهو في كتابه “ما وراء الخير والشر” يبين صراحة أن دلالة الخير والشر تتغير وفقًا للعصر والظروف، فيقول في ذلك “ما يحسبه عصرٌ ما شرًا، هو في الواقع راسب غير عصري لما حسب في عصر سابقٍ خيرًا”، وهذا يجعل من القيم متغيرة ومتبدلة تبعًا للظروف والعصور والأزمنة.
الكلام السابق لنيتشه قد يجعلنا نعيد النظر في تقييمنا لمفهوم الشر، فما نراه نحن شراً قد يكون خيراً في حق آخرين والعكس صحيح، فالجاسوس الذي تزرعه دولة ما لينقل أخبار هذه البلاد إلى بلاده، يعتبر حاملاً لقيمة أخلاقية عليا، وبطلاً قومياً بالنسبة لبلده ولولا قدرته على الكذب والمراوغة ولبس الأقنعة لفشل وربما فنيت بلده، بينما يراه أصحاب البلد الذي يتم التجسس عليه شريراً وعميلاً يتسبب بالأذى عن سبق الإصرار والترصد.
من ناحية أخرى، يمارس القتل اليوم في حياتنا تحت عدة مسميات، فعندما يكون دفاعاً عن النفس يسمى خيراً، وعندما يكون هجوماً على أحد ما يسمى شراً، وعندما تنشب الحروب يتحول القتل المتبادل إلى خيرٍ وشرٍ في آنٍ واحد، ويضطر الكثير من الناس إلى ارتكاب فعل القتل ضد أناس لا يعرفونهم حتى، ومن أجل قضايا خلقها الإنسان من أجل مصلحته أياً كانت تلك المصلحة، فنحن أكثر الكائنات قدرة على الكراهية، وقد نكون الوحيدين القادرين على ارتكاب فعل القتل والاستمتاع به، وربما تكون داعش في عصرنا الحالي مثالًا حيًا على قدرة الإنسان الغريبة على الاستمتاع بفعل الشر والقتل.
في النتيجة؛ يبدو الفكر الحامل الأساسي للقيم التي يجب أن نتحلى بها، ويقع على عاتق المفكرين والفلاسفة مسؤولية بناء فكرٍ متوازن قادر على استيعاب الشر الموجود، وتحليله وتفكيكه بهدف تغييره، أو الحد من آثاره، فسواء ولد الإنسان شريرًا أم لا، فهو ملزم بوصفه يعيش ضمن مجموعة من الناس، أن يلتزم بقواعد أساسية تجعل من الحياة أكثر أمانًا، وأقل سوءًا، وهذا يجعل من القانون أساسًا في ضبط واقع الشر وتبعاته، فمن يميل للقتل يتراجع خوفًا من القانون، ومن يرتكب السوء بحق الآخرين يفكر آلاف المرات خوفًا من نتائج أعماله، فالعيش في المجتمع يعني بالدرجة الأولى احترام القانون وتطبيقه، وفقًا للعقد الاجتماعي الذي يخفف من وطأة الشرور التي نراها كل يوم.