يخطئ طبيب فَيُلام الطبيب، تخطئ طبيبة فتُلام النساء!
تجيء إلى العالم فتعنّف وتحتقر وتقزّم لأنها ولدت أنثى. تتكلّم وترفع صوتها في وجه سلطة ذكورية قد تعادي كذلك الرجل، هاتفةً برأيها فتُقمع لأنها أنثى. تحلّق في سماوات العلم والمعرفة والطب والفلك وتسبح بين أمواج الكلمات والقصائد وتمشي تحت نور الأدب والفنون جنبًا إلى جنب مع الرجل دون أن تلقى نفس العرفان والشكر والتشجيع، بل لتصدم بواقع التعصب ضد المرأة.
هذا ما جنته النظم البطريركية عليها وعلى كل أولئك الرجال الذين آمنوا أن الخطأ والبكاء والمحبة واللون الأزرق ليست حكرًا على هويّة جندرية واحدة. فمن هي هذه المرأة التي ظلّت تعادي الظلم لا الرجل؟ وكيف وصلت إلى قمّة الجبل وهي كسيزيف تدفع بالصخرة إلى الأمام آلاف المرات يوميًا؟ لم يقاضيها العالم حين تخطئ ولم يلتزم الصمت حين يخطئ ذاك الرجل؟
حكايات وأساطير قزّمت المرأة
كلما وجدت حكاية غير علمية متجذرة في المِخيال العام، اعلم أن خلفها أساطير ونصوص وقصص ورثتها البشرية جيلًا بعد جيل حتى صارت حقيقةً مغروسةً في لاوعينا، لا يمكن مسحها إلّا بممحاة العلم وبقلم الثقافة. كانت من بين هذه الخرافات، حكايات كثيرة تقول بدونية المرأة وبخبثها وغبائها وضعفها أمام غرائزها وقد انتقلت من الإغريق إلى المشرقيين ومن الأديان إلى اللادينيين ومن الرجعيين إلى الحداثيين، فاضحةً استبطانهم لهذه القصص الخاطئة والتعصب ضد المرأة.
أسطورة باندورا وصندوقها
تأتينا أولى الحكايات من الميثولوجيا الإغريقية وهي حكاية باندورا الفاتنة التي خلقها زيوس لمعاقبة بروميثيوس بعد تحديه للإله الأقوى وسرقته للنار. اجتمع الآلهة الآخرون تحت أمر زيوس ليصنعا باندورا من الطين والماء ولينفخ فيها كل منهما قواه فتأخذ الجمال من أفروديت والموسيقى من أبولو والذكاء من أثينا. لكن زيوس كان يريد أن ينقصها شيئًا ما وأن تكون محدودة القوى والقدرات كالكائن البشري، فجعلها كذلك. لكن بشريتها لم تنحصر فقط في هذا الضعف، إذ طلب زيوس من هيرميز أن يبعث في روحها القدرة على الكذب والغدر والخيانة والفضول وأهداها صندوقًا جمع فيه الأمل بكل شرور وأوجاع الدنيا من شيخوخة ومرض وحروب وجوع وغرور، ثم طلب منها ألّا تفتحه.
بُعِثت باندورا على الأرض وحملها هيرميز خادم زيوس إلى إبيمثيوس الذي وقع في شباكها وأعجب بجمالها. لكن لعنة الفضول وغموض الصندوق ظلت تطرق أبوابها إلى أن فتحتها وحدث ما لم يكن في الحسبان. من هذه اللعبة اللعينة خرجت كل المآسي والشرور وتبعها سخط زيوس الذي أعلن أن المعاناة والتراجيديا صارت مصير البشرية بعد أن اقترفت الأنثى ذاك الذنب. سجنت هذه الاتهامات الإلهية باندورا في قفص الإحساس بالذنب والهلع كما سجنت كل السلط الذكورية النساء خلف قضبان اللوم وظلمتها كما ظُلِمت وما زالت تعاني التعصب ضد المرأة يوميًا.
قصة ناحتة كانت تتفنن ليخلد اسم زوجها على أعمالها
من الأساطير والميثولوجيا إلى القصص الواقعية والحقيقية ومن حكاية باندورا وإحساسها بالذنب نمضي بكم نحو فرنسا في سرد لحياة كاميل كلوديل، تلك الناحتة التي حكمت عليها الأقدار بالموت بين ذراعي النسيان.
سمعنا مرة واحدة على الأقل عن نحات فرنسي يدعى أوجست رودان وأحببنا منحوتاته الكثيرة التي جسدت الإنسان ومشاعره وقبلاته والتحامه بالآخر في أعمال تكاد تفوق في تفاصيلها واقعية الواقع نفسه، لكننا لم نسمع يومًا عن كاميل التي كانت ذراعه اليمنى والتي لم يكن لينجح دونها. تقول بعض الأعمال التي درست هذه العلاقة ككتاب “Je couche toute nue” الذي نشرت فيه رسائلهما مرفوقة بمعلومات أخرى عنهما أن هذه الفنانة الشابة كانت صاحبة العديد من الأعمال التي ما زالت تنسب له إلى اليوم وأن علاقتهما كانت بغاية استغلال هذا المعلم لتلميذته.
قوانين العالم تتآمر ضد المرأة
بات التعصب ضد المرأة واضطهاد العالم للسيدات ممارسةً مقبولةً وعادية، تشرع لها القوانين وتضمن استمراريتها في كل أنحاء هذا العالم الحزين. في تركيا مثلًا، تظل قوانين خروج المرأة إلى العمل مبهمةً إذ يدافع الرئيس الحالي عن فكرة بقاء النساء في المنازل باعتبارهن أساسًا أمهات. نجد سنة 2019 في هذا البلد أن 2% فقط من مَن يشغرون مهنة رئيس مدير عام هن نساء وأن أقل من 10% منهن يعملن في القطاع العام.
أما في الكامرون، فقد صار من الممكن بالنسبة للنساء الخروج إلى العمل دون موافقة الزوج منذ عام 1981، لكن القانون نفسه يضمن لهذا الأخير حقه في أن يقرر إن كان عليها ترك العمل في صورة عدم رضاه عن دخلها أو عن اهتمامها ببيتها.
صحيح أن القوانين اليوم قد تكون جائرةً وغامضة في بعض البلدان، لكنه ما من قانون أقوى من العرف والتقاليد في دول العالم الثالث مثل الهند التي ما زال ينظر فيها إلى العاملة نظرةً مهينة، خاصة في الأرياف. إذ شهدت نسبة النساء العاملات هناك بين 2005 و2018 انخفاضًا هامًا من 35% إلى 16% وذلك حسب تقرير أعده الخبير الاقتصادي الهندي “Ashiwini Deshpande” ونشره في مجلة “Time of India”.
ضغوطات عديدة تمارس على النساء أثناء عملهن
بعيدًا عن النصوص القانونية وعن العادات والعقليات، تعيش النساء في عصر المساواة والحقوق والحريات هذا ظلمًا لا يمكننا حتى حصر ملامحه ومجالاته وتعمل في ظروف مزرية تتنافى مع حقوق الإنسان وتتعارض مع كرامته. تقول هيئة الأمم المتحدة للمرأة إن دخل النساء اليوم لا يمثل إلّا 77% من دخل الرجال على مستوىً عالمي ويكبر هذا الفارق في المداخيل حسب حالة تلك النساء. لا تخف، عزيزي القارئ، سنوضح حالًا الفكرة أكثر. تقول هذه المنظمة على موقعها الرسمي إنه في كل من إفريقيا الصحراوية وآسيا الجنوبية، يبلغ الفرق في الراتب بين الأمهات والرجال بين 31% و35% في حين يتراوح هذا الفارق بين النساء اللواتي لم ينجبن والرجال بين 4% و14%. انطلاقًا من هذه النقطة، لا تكوني أمًّا في هذه الدول، فإنّ أمومتك تحتم عليك أن تعملي براتبٍ قليل وأن تعيشي ظلمًا كبيرًا.
هذه الأمومة نفسها قد توقعك في مآزق أخرى، علمًا أن 63 بلدًا فقط تحترم ما تنص عليه المنظمة الدولية للعمل بخصوص عطلة الأمومة التي عليها ألّا تقل عن 14 أسبوعًا وأن 28% فقط من النساء تتمتعن برواتبهن خلال هذه العطلة. إن لم يكن هذا تعصب ضد المرأة فما هو!
صحيح أننا لم نختر أن نولد بهوية أنثوية ولكننا ندفع اليوم في هذا العالم ثمنها غاليًا. نعمل عادةً لفتراتٍ أطول وبرواتب أقل. يقللون احترامنا ويقللون من قيمتنا بينما نحاول جاهدين أن نكسب اعترافهم وأن نعيش مرتاحات البال.
هكذا كانت وما زالت حربنا ضد الظلم والتمييز على أساس الجنس، حرب مدمرة ماتت فيها نساء كثيرات نتمنى لهن الرحمة والمغفرة وبرزت بينهن أسماء تفوقت على الذكورية وحلقت في سماوات النجاح والأحلام. فمن كُنّ؟ وكيف نجحن في تحدي هذه النظم والقواعد الجائرة؟
نساء رائدات في مجالات مختلفة
تعلمي أن تحولي دموعك ضحكات وخساراتك انتصارات وضعفك قوة. هذا ما كانت تقوله لي جدتي التي لم تدخل يومًا قاعات الدرس ولم تطالع يومًا كتابًا ولكنها كانت نسوية إلى النخاع. أظن أنّ جدتي -أو ميما كما يحلو لي أن أناديها- كانت تعرف أروى الصليحية التي حكمت اليمن بين 1173 و 1598، كاسرةً بذلك أغلال الجهل وماري كوري التي نالت جائزة نوبل للكيمياء سنة 1911 عن اكتشافها عنصرين كيميائيين هما البولونيوم والراديوم لتكون بذلك أول سيدة تفوز هذه الجائزة والوحيدة التي حصلت عليها مرتين وإليزابيث بلاكويل، أول أنثى تدخل رغمًا عن الجميع جامعات الطب الأمريكية في صف يرتاده 150 رجلًا وجان دارك المحاربة والقائدة العسكرية والمناضلة التي يمكن القول بأنها قد حررت بلدها فرنسا من المستعمر الإنجليزي في القرن الخامس عشر والتي كانت تلقب بعذراء أورليان.
تسلحت كل هؤلاء النساء بالعزيمة والإرادة ورباطة الجأش. خضن الحروب ودرسن الطب وناضلن من أجل حقوق الإنسان وحكمن الدول دون أن تقدم لهن كل هذه الانتصارات على طبقٍ من ذهب، إذ كن في نفس الوقت بطلاتٍ وضحايا لنظام بطريركي يتجاوز الزمان والمكان. بيد أننا اليوم ما زلنا نمارس نفس المظالم على هذا الجنس ونقزمه ونحتقره فنعتبر أن الخطأ مرتبط به وأن الصواب مرتبط بالرجل. مما يعتبر خطأً هذا في حد ذاته، فإن كان الرجال على صواب دائم، لِمَ يواجهون في فرنسا حوادث العمل بنسبة 64% بينما تقارب النسبة 36% عند النساء؟ لكن ماذا عن علاقة الأخطاء الطبية بالجنس كما يزعم كثيرون؟
تمييز على أساس الجنس حتى في الأخطاء الطبية!
عرف المجال الطبي تزايدًا في عدد العاملات فيه في العقود الأخيرة وكان هذا نتيجةً لالتجاء الفتيات للعلم والدراسة للفرار من سلطة الأب والأخ والزوج ولكن هذا لم يعد بالسلب على جودة المعالجة والاهتمام بالمريض، بل بالعكس تمامًا وهذا ما تؤكده الأرقام. إذ نجد أن الطبيبات تقضين 15% من الوقت الإضافي في العناية بالمريض مما ينقص عليه زيارات المتابعة الإضافية كما تقول نفس الدراسات والأرقام أن النساء تفضلن التركيز على الطب الوقائي مما يدفع عنا الكثير من المخاطر.
الخطأ فعل بشري يتجاوز الجنس واللون والعرق والدين، لكن تطرف المجتمعات المحافظة اليوم قد يرجعه إلى كذبة تزيد من سلطوية الرجل وتشبع غروره فتجعله متصلًا بجنس ما ومتأصلًا فيه.
اراجيك