كارثة جيل الألفية.. كيف يمكننا التخلص من هوس الإنتاجية وإدمان العمل؟
مثل الحديد، يمكن للبشر أن يتحولوا لمغانط جاذبة لسلوكيات بعينها، يتضح ذلك أكثر ما يتضح في الإدمان، لكنه يظهر بصورة أكثر شيوعا وخفاء في وجهة نظرنا عن العمل، وهوسنا بالإنتاجية واحتياجنا الدائم لزيادة الإنجاز. لكن ماذا لو كان كل هذا خاطئا تماما؟ ماذا لو كان ذلك هو ما يفوت علينا إيجاد المعنى الحقيقي لحياتنا؟ ماذا لو كان ضارا كالإدمان تماما؟
نص الترجمة:
في الفترة الماضية من الوباء التي اختبرتَ خلالها أحلك لحظات حياتك، حينما ابتلعك التوتر والخوف وأصبحت مشتتا فاقدا للتركيز، لا عجب أنك سمعت هذه الجملة مرارا وتكرارا: “الأمر صعب للغاية”، ربما قرأتها، أو لعلها وُجِّهتْ إليكَ من مديرك، أو رددتها بداخلك. إن مواجهة جائحة على مدار عامين كاملين تقريبا ليس بالأمر اليسير، وخاصة على أولئك الذين قادوا خطوط الدفاع الأمامية من الأطباء والمعلمين الذين حاولوا جاهدين تدريس طلابهم من المنزل، بل وحتى على العاطلين عن العمل، ومن سيطر عليهم خوف دائم من الطريقة التي تنتشر بها متغيرات كورونا، وأولئك عاشوا في عزلة تامة، وأرعبتهم التجمعات. فأمام هذه الجائحة، لم يسعَ الجميع سوى للتألم، ولكن بدرجات متفاوتة.
كل هذه الخطوات الشاقة من محاولات العزل واتباع القواعد كانت تستحق أن نلتزم بها حتى نحافظ على حياة الآخرين، وخاصة على معارفنا، أصحاب المناعات الضعيفة. حتى في أكثر اللحظات التي شعرتَ فيها بالوحدة تبتلعكَ، أو الإرهاق يخيّم على قلبك، أو موجة من رعب حقيقي تكتسحك، تمكنت في النهاية من مواصلة التزامك وعزلتك مدركا الغرض من كل ذلك. لكن العديد من العاملين في مجال المعرفة (من تعتمد وظائفهم على التفكير) وصلوا منذ فترة طويلة إلى نقطة الانهيار قبل حتى انتشار الوباء.
تقديس العمل الشاق
على الرغم من ساعات العمل التي تتجاوز 40 ساعة أسبوعيا، فإن الهدف من كل ذلك أصبح يتلاشى تدريجيا ويزداد غموضا. في السنوات الأخيرة، أصبح نادرا أن ننجز عملا يبعث فينا شعورا بأن ما نفعله مُجديا أو مُبتَكرا، حتى وإن غمغمنا ذات مرة بعكس ما نشعر به لنقدِّم إجابة مثالية عما نحبه في وظيفتنا. لم يكن هدفنا ذات يوم هو محاولة الرفق بذواتنا وتقليل العمل المُكلَّفين به، بل على العكس تماما، انطلقنا مُرغَمين تحت وطأة العمل، عازمين على المضي باجتهاد لإثبات قدرتنا على تحمل المزيد من العمل.
تفرض مقاييس مجتمعاتنا علينا منذ ولادتنا تقديس العمل الشاق والتفاني فيه. قد تسبب لك ساعات العمل الطويلة شعورا بالاختناق تحت وطأة متطلبات الإنتاجية التي تَستَنزِف وقتك وجسدك، ورغم ذلك يسيطر عليك إحساس بارد بأن ما تفعله لا يمكن مقارنته أبدا بالأعمال الشاقة، مثل الأعمال الزراعية أو الصناعية. فطبقا للمعايير المجتمعية، فإن العمل خارج المنزل، سواء في الهواء الطلق أو في المصانع أو بأي شكل من أشكال العمل التي تُرهِق الجسد، يُعد عملا نبيلا وبطوليا، على عكس العمل من المنزل باستخدام الحاسوب الذي يراه المجتمع أقل جدارة، حتى وإن كان يؤثر سلبا على الجسد أيضا، ولكن بطرق لا تترك آثارا واضحة.
إذن، ما نوع العمل الذي يحمل قيمة حقيقية فعلا؟! إن الإجابة عن هذا السؤال مُبهَمة للغاية. فمثلا، يشعر العديد من العاملين في المجالات المعرفية، بمن فيهم الكُتّاب، بانعدام الأمان الوظيفي، وتؤرقهم العديد من الأسئلة على غرار: ما مقدار العمل الذي عليهم إنجازه؟ من يستهدفون بهذا العمل؟ ما قيمة ما يفعلونه؟ وهل يشعرون بقيمتهم خلال هذا العمل؟ كيف يُكافَؤون على إنجازاتهم؟ وأي مؤسسة ستقدم إليهم هذه المكافأة؟ وأمام كل هذه التساؤلات المربكة، لا يجدون سوى إجابات أشد إرباكا.
وفي مواجهة النظام الرأسمالي الاستغلالي، أُصيب البعض بخيبة أمل كبيرة، وأعلنوا احتجاجهم الشديد على هذا النظام باعتباره السبب الرئيسي في خلق هذا الشعور بالتيه والتخبط. في حين استسلم الآخرون تماما وانخرطوا في العمل الذي اعتبروه شرطا لتحقيق قيمتهم الشخصية وتقدير ذواتهم. واستجابة للأزمة الوجودية حول قيمة المرء الشخصية، لم يسعهم إلا أن يقفزوا إلى مطحنة الإنتاجية التي اعتبروها هي الأخرى شرطا لتحقيق قيمتهم الشخصية، آملين بأن يجدوا في نهاية المطاف هدفا وكرامة وشعورا بالأمان.
لكن مع الأسف، نادرا ما توفر دوامة العمل الطاحنة القيمة والمعنى اللذين نأملهما. وإذا نظرنا إلى الجانب المشرق قليلا، فسنجد أن الناس باتوا يدركون جيدا أن الوضع الراهن للحياة العملية لم يعد مُحتمَلا، وقد جاء الوباء ليؤكد لهم ذلك بخلق فرصة لإعادة النظر في شكل حياتنا، ومحاولة التخلص من كل الأشياء التي تُكدر صفونا.
هل تنقذنا الهوايات البسيطة؟
يمكن للعنب المرن (الذي يختار فيه الموظف وقت عمله، شريطة الوصول إلى إجمالي عدد الساعات اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية التي يتوقعها صاحب العمل، على أن يحدد الموظف الوقت الذي سيعمل فيه والمكان المناسب له) أن يغيّر حياتك. كما يمكن لنوعية هذا العمل أن ينتشلنا من دوامة الإنتاجية التي لا تنتهي أبدا، فيغمرنا شعور بالسعادة والصحة، وينعكس ذلك بالإيجاب على المجتمع أيضا. كما أنه يُنصِف فكرة العمل من المنزل التي ظلمتها المعايير المجتمعية.
أما من ناحية حياتك الاجتماعية، فسيساعدك ذلك في أن تكون صديقا جيدا وأبا مخلصا وشريكا أفضل. ومن المفارقات العجيبة أيضا أنه قد يسمح لك بأن تعيش نوع الحياة التي تتظاهر بها خلال منشوراتك على الإنستغرام. سيوفر لك المزيد من الوقت لتتحرر من عبء العمل الذي يُثقل كاهلك، وتعيد استكشاف جوانب من حياتك يمكنها أن تغمرك بشعور الراحة. إننا نحاول جاهدين الفرار ولو قليلا من دوامة العمل اللعينة، لنتمكن من تذكر الهدف الحقيقي لما نفعله واستعادة الكرامة التي تنطوي عليها حياتنا بأكملها.
لكن عليك أولا أن تسأل نفسك بعض الأسئلة مثل: من الشخص الذي ستكون عليه إن لم يعد العمل محور حياتك؟ كيف ستتغير علاقتك بأصدقائك المقربين وعائلتك؟ وما الدور الذي ستؤديه داخل مجتمعك عامة؟ من ستدعم؟ وكيف ستتفاعل مع العالم؟ وما الشيء الذي سيمثل لك أهمية قصوى لتقاتل من أجله؟
يُعدّ السبب الرئيسي وراء إرهاقنا وقلقنا الشديد هو اعتيادنا على التعامل مع حياتنا باعتبارها شيئا قابلا للضغط والتضحية ما دام ذلك في سبيل العمل. نخنق حياتنا لدرجة أن طرح الأسئلة السابقة على أنفسنا يمكن أن يُشعِرنا بأننا متساهلون للغاية بشأن ما يتعلق بحياتنا، وقد نشعر بالسخافة، وأن محاولاتنا للإجابة عن هذه الأسئلة هي ضرب من الخيال. حسنا، دعنا نقرب وجهة النظر قليلا، وتخيّل معي أن حياتك فيلم وعليك اختيار أشخاص ليؤدوا دورك وأدوار باقي أفراد عائلتك، لتظهروا بصفتكم عائلة تنعم بالراحة والطاقة والحيوية، ألن يحاول عقلك حينها إقناعك بأن هذا ضرب من الخيال؟ حتى وإن حاول ذلك، فعليك أن تدرك جيدا أن التفكير بهذه الطريقة أمر مذهل، لأنك في حاجة إلى ذلك فعلا، وينبغي أن تتوق إليه لدرجة تحفزك على تغيير حياتك.
فلنعد بالزمن قليلا إلى الوراء، فكِّر في حياتك السابقة قبل أن تعمل باستمرار مقابل أجر، حينما كانت لديك مساحة من الوقت غير متعلقة بجداول ولا إنتاجية، فيمَ كنت تحب استغلالها؟ لا يجب أن تتعلق إجابتك بما أملاه عليك والداك من أجل مصلحتك، ولا بما شعرت بضرورة القيام به لتتكيف مع الظروف حولك، ولا بممارسة شيء ما لمجرد أنه سيضيف إلى مهاراتك عند طلبك للالتحاق بالجامعة أو الوظيفة.
قد تكون الإجابة بسيطة للغاية تتضمن بعض النشاطات على غرار: أنك أحببت وقتها ركوب دراجتك والتحرك بها دون وجهة مُحددة، أو إجراء وصفات جديدة وجريئة في المطبخ، أو تجربة مساحيق التجميل، أو كتابة قصص خيالية، أو لعب الورق مع جدك، أو ربما مجرد الاستلقاء على الفراش والاستماع إلى الموسيقى، أو تجربة جميع الملابس وصنع أزياء مضحكة، أو ربما الثرثرة، أو لعلها هواية تجميع البطاقات، أو لعب كرة السلة، أو الذهاب في رحلات طويلة، أو تعلم الحياكة، أو التزلج.
أيا كانت هواياتك، فإنك مارستها سابقا لأنك أردت ذلك فعلا، وليس لأنها ستبدو مثيرة للاهتمام إذا نشرتها على وسائل التواصل الاجتماعي، أو لأنها حسّنت جسدك وأظهرته بطريقة مثالية، أو لأن هذه الهوايات تمنحك فرصة للحديث عنها وقت التجمعات مع الأصدقاء واحتساء المشروبات. أنت فعلت ذلك لرغبة مؤججة بداخلك تجعلك تستمتع بهذه الأشياء.
بمجرد التوصل إلى الأشياء التي كنت تستمتع بها حقا، حاول أن تتذكر تفاصيل هذه الأشياء. هل كنت مسؤولا حينها عن حياتك؟ هل راودتك حينها أهداف يمكن تحقيقها، أم لم يكن هناك أهداف على الإطلاق؟ هل قضيت هذه الأوقات بمفردك أم مع الآخرين؟ أكانت أنشطتك المفضلة هي قضاء الوقت مع شخص تحبه؟ هل اشتملت هذه الهوايات على التنظيم، أو التدريب، أو اتباع أنماط معينة، أو التعاون مع الأصدقاء؟ حاول أن تكتب هذه الأشياء والأسباب التي جعلتك تتعلق بها. تأمل هذه القائمة وتساءل إن كان يوجد ما يشبه هذه التجارب في حياتك الحالية.
إذا كانت إجابتك عن هذه الأسئلة متعلقة بوظيفتك، فربما يُعَد هذا منطقيا بعض الشيء. ويرجع ذلك إلى طبيعتنا التي تحتّم علينا أحيانا ربط الأشياء التي نجيدها ونحبها بمهنتنا. لكن أولئك الذين اتبعوا النصيحة الخبيثة “اعمل ما تحب” يعرفون ما ستؤول إليه الأمور في النهاية. نعم، هذه النصيحة هي مجرد فخ لاستنزافك، وطريقة ذكية لنزع كل المتع والشغف من أي نشاط (ببساطة، اعمل ما تحب وستظل تعمل كل يوم إلى آخر يوم في حياتك).
إننا لا نعطي أولوية لهذه الأنشطة، لأننا في الحقيقة لا نعطي أولوية لأنفسنا. كل ما نفعله هو البحث عن سبل للوصول بأنفسنا إلى المستوى الأمثل من الموظفين المرغوب فيهم. لذا، عليك أن تُدرك جيدا أن الهواية الحقيقية ليست وسيلة لتزيين شخصيتك، أو للتباهي بوضعك الاجتماعي، لكنها -ببساطة شديدة- مجرد أشياء تحب ممارستها لرغبة نابعة من داخلك.
توقف عن الركض
حسنا، كن صبورا مع نفسك حينما تكتشف ذلك. إذا نجحت في نهاية المطاف في تخصيص بعض الوقت في جدولك لهذه الأنشطة، فلا بد أن تعرف جيدا أنه لا بأس إن شعرت برغبة في استغلال هذا الوقت لأخذ قيلولة أو مشاهدة المباريات الرياضية. هذا شعور طبيعي للغاية، ومتوقع جدا. أنت الآن في مرحلة تعافٍ، ولن تكون نتيجتها فقط نفض الغبار عن سنوات طويلة من العمل الشاق فحسب، ولكن أيضا التخلص من الإجهاد المتراكم الذي سببته فترات الوباء الصعبة. ولا تظن أبدا أن ضياع البوصلة وفقدان وجهتك إلى ذاتك وإلى ما تحب يعني اختفاءهما إلى الأبد، ستسترجع كل ذلك مع الوقت، عليك فقط أن تكون صبورا ورحيما بذاتك. هذه ليست مجرد فترة “للعناية بالنفس”، وإنما هي فترة نقاهة وتعافٍ.
عندما تبدأ آثار الإنهاك من العمل تخف شيئا فشيئا، وتبدأ في استعادة عافيتك، حذارِ من اللهاث للحاق بعجلة الإنتاجية، قاوم الرغبة في ذلك، ووجه بوصلتك من جديد نحو البدء في استكشاف ملذاتك الخاصة. عندما قررت أنا وزوجتي تطبيق ذلك، رغبت “آن” في ممارسة التزلج الذي كان هوايتها المفضلة في مرحلة الطفولة، لكن المشكلة أنها ترددت في ممارسته من جديد، وسرعان ما أسندت ذلك بالطبع إلى عدة أسباب جاهزة، منها على سبيل المثال أن حذاء تزلجها أصبح باليا، ولم يكن لديها أي شخص تذهب معه، وتساءلتْ: من سيعتني بالكلاب؟ فضلا عن أنها لا تملك نظارات واقية، ورأت أن نهاية الأسبوع هكذا قد تضيع كاملة في التزلج، في حين يمكنها استغلال هذه الساعات في العمل مثلا. تساءَلت: فرضا بدأت من جديد، ماذا لو لم تكن مهاراتي جيدة كما السابق؟
كانت هذه الحجج والأعذار جاهزة للخروج بمجرد أن سؤالها عن السبب. لكن في النهاية قررت مشاركتها في التزلج، واستأجرنا بعض المعدات، واختبرنا تجربة مثيرة للإعجاب حقا. بالنسبة إلى “آن”، كان الأمر أشبه بزيارة إلى ماضيها وذكرياته، أما عني، فقد حاولت تعلم العزف على الجيتار من جديد، لكني سرعان ما ترددت في شراء واحد جديد، وأخذت أتساءل أيضا: ماذا لو استثمرت وقتي في تعلم هذه الهواية من جديد ثم أهملتها مرة أخرى؟ لكني غالبت ذلك واشتريت في النهاية جيتارا متوسط الحال، ثم انطلقت في التدريب.
في البداية، شعرت بعدم ارتياح، وهذا لأننا نُثقِل كاهلنا بضغوطات كبيرة تشترط تفوقنا في كل شيء، لدرجة أننا لا نقبل أن يكون مستوانا متوسطا في شيء ما، ويجتاحنا على الفور شعور بعدم الارتياح. لكن حينما أدركت أنه لا بأس بذلك، بدأت جميع الدروس التي تعلمتها في شبابي بالتدفق إلى رأسي مجددا، فظللت أعزف إلى أن تورمت أصابعي. اتضح أن قبول مستوانا المتوسط في شيء ما يعني السماح لأنفسنا بالانفتاح الكامل على معجزات مدهشة من التطورات الصغيرة المستمرة، والأهم من ذلك كله، أن هذه التطورات ستحدث فقط لو سمحت لنفسك بالاستمتاع الحقيقي وقت تعلم شيء جديد. وبطريقة ما أصبح الجيتار طوق نجاة، ووسيلة للتركيز الكامل على شيء آخر لا علاقة له بالعمل إطلاقا.
مهما كانت الهواية التي ستختار ممارستها، لا بد أن تكون مختلفة تماما عن العمل قدر الإمكان. بمعنى أنه عليك مقاومة أي سبب يحولها إلى سلعة بطريقة ما، حتى لو أشاد الناس بمدى جودة ما تفعله، واقترحوا عليك بيعه، فلا يجب أن تخضع لذلك، قاوم الرغبة في إتقان هذه الهواية حتى لا تتحول مع الوقت إلى شيء يشبه العمل. هذا لا يعني أن تتوقف عن التطور، يمكنك بالطبع تحسين أدائك وتقديم شيء للآخرين، لكن تذكر أن هذا كله يختلف تماما عن محاولة أن تكون الأفضل في هذا المجال، وإن لم تحقق ذلك، فلا تبدأ في تقريع نفسك (أو التخلي عن هذه الهواية تماما) لمجرد شعورك بالتقصير أو عدم تحقيق الأداء الأفضل.
في أحد أيام الشتاء الماضي، أرسلتْ إحدى المتابعات لزوجتي تخبرها أنها بدأت الرسم مؤخرا، رغم أنها لم ترسم في حياتها قط، ولم تملك مهارة لذلك، ولم تطمح حتى يوما ما في صقل هذه المهارة، كل ما هنالك أنها أحبت فقط رسم “عروض سخيفة ومضحكة” لمشاهد في حياتها، مثل كلبها على سبيل المثال، ثم إرسالها إلى أصدقائها للتسلية. لم تكن سعادتها في إنتاج هذا الشيء أو محاولة إتقانه، وإنما في ممارسة الرسم نفسه ونقله لأصدقائها. إنها السعادة المتأصلة في فعل شيء ليس له غرض أو قيمة بخلاف الأشياء التي تستحوذ علينا، ونرفض التخلي عنها.
في كتابها “كيف تستمتع بفعل اللاشيء”، تُصوّر الكاتبة الأميركية “جيني أوديل” هذه الأنواع من الأنشطة على أنها وسيلة لاستعادة السيطرة على انتباهك. فأنت بهذه الهوايات تسخّر رغبتك في القيام بهذه الأنشطة، وتتصرف بناء على هذه الرغبة، لا على رغبات الآخرين التي تجبرك على التنازل عن وقتك وجهدك. ولتحقيق ذلك، لا بد أن تبعد نفسك عن الهوايات الشائعة إلى حد ما، وعليك إسكات ذلك الصوت الذي سيحاول إقناعك بالعثور على نشاط يمكن “ممارسته” مع شريكك أو طفلك. يمكنك بالفعل مشاركتهما نشاطات أخرى في وقت لاحق، لكن في البداية لا بد أن تركز على البحث عما تريده حقا، وهذا يعني ضرورة تجنب المساعي أو النشاطات التي تتطلب استثمارا كبيرا في الوقت أو المال، الأمر الذي سيزيد الضغط على النشاط نفسه.
لا تتنازل أبدا عن هواياتك
حينما تجد نشاطا ما وتُخصص له وقتا بانتظام، قد يخيّل إليك أنه أمر غريب، وربما تسيطر عليك هواجس بأن ما تفعله نوع من الأنانية أو الطفولية. حينها عليك فقط أن تخرس هذا الصوت بداخلك. إذا كنت تعيش بمفردك، فقد يكون هذا هو صوت إدمانك للعمل. الاستمتاع بهواياتك ليس تصرفا أنانيا أبدا. أما إذا كنت زوجا وأبا وعليك التزامات دائمة، فتخصيص بعض الوقت لنفسك ليس أمرا مستحيلا، حتى لو طلبت من أسرتك ترك مساحة لك لبعض الوقت، فاعلم أن هذا لا علاقة له بالأنانية، بل هو تصرف صحي للغاية. إن كَبْت رغباتك الشخصية في الأنشطة التي لا تتضمن أطفالك، والتنازل عنها، لا يجعل منك أبا مُضحيا ومثيرا للإعجاب، بل يجعلك أكثر إرهاقا واستياءً.
ينطبق هذا الأمر على مجالات أخرى من حياتك أيضا. عندما تحصل على قسط كافٍ من النوم ليلا، ألن تشعر بأنك أفضل في كل شيء؟ مرحلة التعافي التي نجدها في ممارسة الهوايات واستعادة نشاطنا تجعلنا شركاء أفضل، وبالطبع أصدقاء أفضل. نكتشف أن لدينا قدرة على الاستماع جيدا، وطاقة للتعاون مع الآخرين. فممارسة الأنشطة التي نحبها تساعدنا ببساطة على تحرير أرواحنا التي خنقناها بهوس الإنتاجية والالتزامات. تذكر هنا مجددا أن الهواية نفسها لا تهم بقدر تأثيرها فينا. إنها مجرد وسيلة لإبعادك قليلا عن هالة “الشخص الذي يجيد دائما إنجاز الكثير من الأعمال”.
تظل احتياجاتنا للشعور ببعض الراحة والسلام هي اللبنات الأساسية لإنسانيتنا، والفرق الدائم بيننا وبين الروبوتات. لذا، علينا أن نتفهم جيدا ميولنا تجاه الشعور بالبهجة، أو تجاه المشاعر التي لا يمكن وصفها، أو الأشياء غير المثيرة للإعجاب. إن مشاعرنا لا يمكن توليدها بآلة، أو تحسينها بهدف استغلالها في تحقيق الإنتاجية. إنها تستحق منا إعادة اكتشافها، لا لأن ذلك سيمنحنا أخيرا الراحة الحقيقية التي ننشدها فحسب، بل لأنه يُعيدنا إلى جوهرنا الأساسي مرة أخرى.