آليات الدفاع النفسي: درعٌ يحميك أم سلاح مسلّطٌ عليك؟
عندما تكون في حالة طبيعيّة لا يمسسها التهديد ولا التحريض، سيضمن لك اللاوعي الخاصّ بك سلامة استقرارك الداخليّ وفق خطّة مُحكمة يتفاعل داخل أنظمتها كلٌّ من الهو والأنا والأنا العليا في تناغمٍ وانسجام مدروسين، لكن ماذا لو تسللّ شعور القلق إلى داخلك أو انتابك إحساسٌ بقرب وقوع الخطر أو شاءت الأقدار أن تقع ضحية مأزق لا تحسد عليه؟ عندها تظهر آليات الدفاع النفسي لتحميك.
وراء محاولات درء المشاعر المؤلمة التي تجتاح أعماقنا، ومناورات صدّ الأفكار الجائلة داخل دهاليز أدمغتنا، يُلقي اللاوعي بألاعيبه وحيله النفسيّة في محاولةٍ لتلطيف الصراع المحتدم داخلك. فالحياة مليئةٌ بالأحداث الصادمة غير المتوقّعة التي قد تفوق استيعابنا وتحمّلنا العقلي، فهل تنجح آليات الدفاع النفسيّة التي ينسجها ويحكيها اللاوعي في أن تقلّل من شعورنا بعدم الراحة وتخفّف من وطأة تهديد سلامنا الداخلي؟
ما هي آليات الدفاع النفسية؟ وكيف تطورت؟
آليات الدفاع هي استراتيجيات غير واعية تحمي الناس من الأفكار أو المشاعر المقلقة، والتهديدات المتكررة لتقدير الذات والكثير من الأشياء التي لا يريدون التفكير فيها أو التعامل معها.
على غرار نشوء جميع الأنظمة المعيشيّة، طوّر البشر استراتيجيات متعدّدة ضدّ التهديدات التي تمسّ البقاء والتكامل البشريّ، وعلى نهج الجهاز المناعيّ الذي يكافح لحمايتنا والتصدّي لمختلف أنواع الميكروبات التي تخترق أجسادنا، من المحتمل أن تكون آليات الدفاع النفسيّة مماثلةً له في المبدأ أو مكمّلة للهدف الأسمى في تعزيز سلامة هندستنا النفسيّة وشعورنا بهويتنا الذاتيّة وتقديرها.
لقد اقُترحت نظرية آليات الدفاع لأوّل مرة من قبل سيغموند فرويد وابنته آنا، وتطوّرت مع مرور الوقت مع الوقوف على حقيقة أنّ جميع السلوكيات التي تندرج تحت لوائها لا تخضع لسيطرة الشخص الواعية، بل يقوم معظم الأشخاص بتنفيذها دون إدراك للاستراتيجية التي يستخدمونها.
آليات الدفاع النفسية سلاح ذو حدّين
آليات الدفاع ليست سيئة بطبيعتها، فهي تسمح للأشخاص باختبار تجارب مؤلمة أو توجيه طاقاتهم بشكل أكثر إنتاجيةً ونضجًا، وبالطبع هذا أمرٌ جيّد في بعض الأحيان. من ناحيةٍ أخرى قد تعكس بعض الآليات مثل الإنكار والإسقاط، التي سنأتي على ذكرها لاحقًا، عدم القدرة على التكيّف والحاجة لتوجيهها إلى تلقّي العلاج المناسب.
إذًا النتيجة مرهونة عند تطبيقها بشكلٍ متكرر أو لفترة طويلة جدًّا بسبب خطورة تطوّرها إلى اضطرابات عصبية مثل حالات القلق، أو الرهاب، أو الهوس، أو الهستيريا.
انطلاقًا من اعتبارها جزءًا طبيعيًّا من عملية التطورّ النفسي، سنساعدك في التعرّف على نوع الآلية الدفاعية التي تتبناها أنت أو أحد أحبّائك أو زملائك في المحادثات واللقاءات المستقبليّة.
الإسقاط Projection
هل تلوم شريكك على عيوبك الخاصّة بدلًا من الاعتراف بها؟ هل تتهم شريكك بكونه فوضويًا أو غير مهتمّ بأمرك؟
قد ترفض الاعتراف بمشاعر شريكك أثناء الجدال القائم بينكما وتلقي اللوم عليه بعدم تقديرك والاهتمام بعلاقتكما، وفي ذات الوقت تدّعي أنّك شخص متعاطف للغاية، تستجيب لمتطلبات شريكك وتفهم مشاعره. في الحقيقة إنّ مفهومك الذاتي عن الاستحقاق وتقدير الذات مهدّد، وستحتاج إلى الاعتراف بوجود تلك السلوكيات داخلك، بدلًا من محاولة إلقائها على الطرف الآخر.
يعتبر الإسقاط وسيلةً دفاعية بدائية إلى حدّ ما، لأنّه يقوم على مفهومي الأبيض والأسود للخير والشر. حيث أظهرت الدراسات أنّ الأطفال هم الأكثر ميلًا لاستخدامه كآليّة دفاع في مرحلة المراهقة المبكرة والمتوسطة وبشكلٍ أقل في مرحلة المراهقة المتأخرة. لعلّ أشهر الأمثلة على الإسقاط في حياتنا اليومية، مظاهر التنمر المنتشرة بين الأطفال والبالغين في المدارس والأماكن العامّة، والتي تجنب المتنمر الاعتراف بالنقص الموجود داخله.
رغم تصنيف الإسقاط كوسيلة دفاعية غير ناضجة، هذا لا يعني أنّ البالغين لا يستخدمونه. بل من وقت إلى آخر، سيلجأ إليه الكبار كنوع من حماية أنفسهم من الشعور بالتهديد وعدم الأمان.
الإزاحة Displacement
تتمثّل بإعادة توجيه الدوافع العدوانيّة ومشاعر الغضب من المصدر الرئيسي المتسبّب بانفعالك، الذي غالبًا ما يكون أكثر سلطة وقوّة منك إلى جهةٍ أخرى أكثر ضعفًا وأقلّ تهديدًا بالنسبة لك، كثيرًا ما نصادفها في حالات الغضب وتفريغ شحنات الانفعال. من الأمثلة العمليّة على هذه الآلية أن تصبّ نار غضبك على أطفالك أو زوجتك لمجرّد أنّك قضيت يومًا سيئًا في العمل. ليس لأيّ من هؤلاء الأشخاص سببٌ في تولّد تلك المشاعر المشتعلة داخلك، ولكن من المحتمل أن يكون رد الفعل تجاههم أقل إشكالية وعاقبة من الردّ على رئيسك في العمل.
ردّ الفعل المعاكس Reaction formation
من الأمثلة الكلاسيكية على ذلك صبيّ صغير يتنمّر على فتاة صغيرة لأنّه ينجذب إليها على مستوى اللاوعي. إنّ وعيه لا يستطيع مواجهة حقيقة مشاعره الرومانسيّة، فيعبّر عن تلك المشاعر بالكره بدلًا من إبداء الإعجاب والتقدير.
يظهر التصرّف بعكس ما يطالب به اللاوعي أو عكس الدوافع الحقيقية الموجودة داخل الفرد بردّ فعل مبالغٌ فيها وزائد عن الحدّ، وما هو إلاّ وسيلة يستخدمها الأنا للدفاع عن النفس ضدّ أي أفكار ومشاعر يعتبرها غير مقبولة ومناسبة للمعايير الشخصية أو العائلية أو المجتمعية التي ينتهجها. بينما قد تحمي هذه الآلية احترام الفرد لذاته في الوقت الحالي، لكن مع مرور الوقت ستتفاقم المعضلة جرّاء محاولاته المتكررة لقمع مشاعره المتأصّلة داخله، وسلب إرادته ككائن بشريّ يمتلك حق وحرّية التعبير.
التعويض Compensation
هل تلجأ إلى استهلاك الكحول أو المخدرات بدلًا من مواجهة مشاعرك السلبية؟ هل من الأسهل عليك أن تتجرّع كوبًا إضافيًا من النبيذ أو البيرة بدلًا من التحدّث مع شريك حياتك حول ما يزعجك؟
عندما يعاني الشخص من ضعف أو نقص في مجال ما، يدفعه ذلك إلى التعويض في مجالات أخرى، إمّا بوعي أو بغير وعي منه. فقد يبذل جهودًا كبيرة للتعويض بطرق إيجابية، ممّا قد يؤدي إلى تحقيقه نجاحًا هائلًا، ولكن من المحتمل أيضًا أن تنتهي محاولات التعويض بعواقب سلبية. على سبيل المثال، إذا عَلمنا أنّنا ضعفاء في مجال الرياضيات، فقد نحاول تعويض هذا النقص من خلال تطوير مهارات شفهيّة وكتابية فائقة وأن نصبح ماهرين بشكل خاصّ في هذا المجال بدلًا من مجال الرياضيات، هذا مثالٌ بسيط على التعويض الواعي. بالمقابل، إذا شعرنا بعدم الأمان حيال مظهرنا وجاذبيتنا الجسدية، قد نلجأ إلى مظاهر التبذير والإسراف والتفاخر بالمقتنيات المادّية كمحاولةٍ للتعويض اللاواعي.
النكوص Regression
أسلوب مواجهة دفاعيّ يتمثّل برجوع الفرد لمرحلةٍ مبكّرة من التطوّر النفسي أو الجسدي بدل مواجهة الموقف بشكل مناسب لعمره، لأنّ تلك المرحلة تعتبر أكثر أمانًا وأقلّ مطالبة بمواجهة مواقف الحياة.
قد نشاهد الكبت في أيّ مرحلة من مراحل التطور عند كلٍّ من البالغين والأطفال عندما يتصرفون بطريقة غير ناضجة أو غير ملائمة بالنسبة لأعمارهم. على سبيل المثال، قد يلجأ كبار السن في المستشفى بعد أن يتم تشخيصهم بمرض أو حالة صحيّة غير جيّدة إلى الانطواء على أنفسهم واتّخاذ وضعية الجنين ورفض الاستجابة للمحيطين بهم. كذلك الأمر ينتشر بكثرة بين الأطفال عند ولادة أحد إخوتهم، فقد يلجأ الطفل بدافع الغيرة وجذب انتباه الآخرين له إلى الإلحاح على طلب الرعاية الشخصية، رغم استطاعته تدبّر حاجاته الذاتية، كرجوعه إلى عادات طفولية سابقة مثل التبول اللاإرادي، أو تقليد المولود الجديد بأساليب الأكل والشرب.
في حين أن النكوص غالبًا ما يكون استجابة مؤقتة للتوتر الذي لن يتطوّر إلى مشاكل أكبر، فقد يكون الفرد في كثير من الحالات غير مدركٍ أنّ سلوكه ارتدادي، على الرغم من أنّ عدم نضج أفعاله قد يكون واضحًا للعالم الخارجي.
سيستلزم ذلك إخبار الشخص أنّ سلوكه طفولي بشكل غير معهود أو غير مناسب لعمره، بغية تعرّفه عليه وتحديد كيفية الاستجابة لكلّ ما يسبب له الضيق بطريقة أكثر نضجًا.
الإنكار Denial
هل تتظاهر بأن الأحداث السلبية الواقعة من حولك لم تحدث أبدًا؟ هل تغمض عينيك وتعتقد أنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام، حتّى عندما يبدو محيطك منزعجًا ومستاءً؟
إنّ رفضك لقبول الواقع الخارجيّ وما يتضمنّه من أحداث أو مشاعر أو تصوّرات مؤلمة أو مهدّدة أو مقلقة بحجّة أنّك لا تستطيع تحمّلها أو حتّى التعامل معها، ما هو إلاّ حيلة دفاعية أسقطها اللاوعي في محاولة تسكين خوفك وقلقك، لتستجيب لها برفض إدراك تلك المواقف أو بإنكار وقوعها من الأساس. من أشهر الأمثلة على ذلك، رفض تقبّل خسارة مشروع خاص بك أو فقد شخص عزيز عليك، كما يمكن أن يحدث لدى المدمنين الذين لا يعترفون بمشكلة الإدمان مع الادّعاء المستمرّ بقدرتهم على إيقاف التعاطي عندما يريدون ذلك.
الكبت Repression
يمكن لتلك الأفكار البغيضة أو الذكريات المؤلمة أو المعتقدات غير المنطقية التي تجول داخل كيانك أن تزعجك وتكدّر صفو سمائك، وبدلًا من مواجهتها ستختار دون وعي منك إخفاءها على أمل نسيانها تمامًا.
لكن مهلًا هل تكذب على نفسك في كلّ مرة مصدّقًا خزعبلات أنّ الذكريات مصيرها طي النسيان؟ أو هل تعوّل وهمك الزائف بأن يباغتك مرض الزهايمر على وهلة حتّى تشفى؟
اتّباع هذه الاستراتيجيات المؤقتة لقمع تلك الأفكار التي لا ترغب باختبارها سيؤثّر على علاقاتك المستقبليّة، كما سيلعب دورًا في تشويه واقعك وقدرتك على استعادة ذكرياتك، لتقع ضحية الأمراض العصابية والاختلالات الوظيفية التي لا يمكن التنبّؤ بنتائجها.
التبرير Rationalization
قد تلجأ في بعض الأحيان إلى شرح السلوكيات أو المشاعر التي لا ترغب بالاعتراف بها، وذلك من خلال مجموعة من التفسيرات الخاصّة بك والتي تبدو منطقية باعتقادك. سيتيح لك ذلك الشعور بالراحة تجاه اختيارك، حتّى لو كنت تعلم أنّه ليس صحيحًا على مستوى آخر.
كثيرًا ما تصادف هذه الوسيلة الدفاعية في العيادات النفسية عند مناقشة المشاكل الأسرية بعد الطلاق، إذ يحاول الرجل إقناع نفسه أنّ زوجته السابقة لم تكن تلبّي معاييره أو أنّ انفصاله عنها هدية من السماء حتّى يتمكن من السفر والتمتع بالحياة أكثر فأكثر. وهذه التفسيرات ما هي إلاّ حماية لذاته من اختبار أحاسيس الفراق المؤلمة.
من الأمثلة الأخرى التي تدخل الفرد في دوّامة الصراع بين مشاعر الندم والقبول، عندما يدّعي الطالب الذي لم يتمكّن من الالتحاق بالجامعة أو التخصّص الذي طالما حلم به، أنّه سعيدٌ ومقتنع بتخصّص آخر أقلّ تنافسية وذو فرص ومجالات عمل أغنى مستقبليًا.