الديون لشراء الاستقرار الزائف… تضخم المديونية في العالم العربي

اشترينا السلم الأهلي بالدين، هذه عبارة قالها رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، ليبرر التوسع في الاقتراض بصورة محمومة، من أجل استرضاء الميليشيات وأمراء الحرب السابقين، فالمقاتلون السابقون يحتاجون إلى وظائف ولا يرغبون بالعمل، وغير مؤهلين له، يريدون حصصاً وأرزاقاً متصلة تعوضهم عن الفرص الضائعة في زمن الاقتتال، ومن أجل المحافظة على ذلك، انطلقوا لتطويق الدولة مثل العشب الضار، وفي وسط ذلك كانت حكومة غير شرعية هي نتاج للحرب وتشوهاتها.
هل تصلح مقولة الحريري لدول عربية أخرى، هي تقريباً شاملة في وصفها للأوضاع العربية، فكثير من الأنظمة العربية افتقدت لشرعيتها منذ تأسيس الدولة، أو تآكلت شرعيتها مع الوقت وتراكم الفشل الذي يتخذ لوناً فاقعاً عند مقارنة واقع الحال مع الوعود التي تبنتها وقامت بترويجها، أو قامرت بشرعيتها وتركتها مشاعاً لتقضمها أسنان بعض الفئات، التي استحوذت على السلطة والحياة السياسية.
كان أساتذة الاقتصاد يفضلون وصف سوء التوزيع في الناتج المحلي بالكعكة، وكنت طالباً استثار نفسياً من الوصف في حد ذاته، إذ أنه يحمل الخلل كله، ومهما كان البعض يحصل على حصة وافية ومشبعة، والأغلبية تحصل على الفتات، فذلك كله وصف بائس، يدلل على فهم مغلوط من اقتصاديين لا يستطيعون التفكير خارج الواقع المكرس، الذي تحرسه التحالفات والمصالح، فالأساس أن يكون الوصف لشجرة تحتاج إلى شمس وماء وسماد من أجل أن يتزايد محصولها، ولمجتمع يسعى لقطف الثمار فتكون كفاءته هي المعيار الأساسي في الحصة التي يتحصل عليها كل فرد، وتبقى البذور لزراعة أشجار أخرى. ما زال أساتذتي يستخدمون وصفاً بائساً كالذي استخدمه اليوم، فكل هذه حيل بلاغية لا تسمن ولا تغني من جوع، والأمر ببساطة يكمن في الاقتصاد السياسي، الذي أصبح مهجوراً من أجل التلاعب الحثيث، الشيطاني أو الساذج، بحركة الأموال في الدولة، ولأن الدولة لا تتوسع في الإنتاج لأنه يرتبط بالمدى البعيد والانتظار والرقابة، وتفضل المكاسب السريعة، حيث لا تستشعر الأنظمة والفئات المختلفة بالاستقرار والاندماج في مشروع وطني متواصل، أما الجمهور الذي يمكن أن يظهر الغضب فيمكن شراؤه ببعض الدعم للسلع، ووظائف كل ما تفعله هو ضمان معادلة الكفاف التي تخلق مزيداً من البشر الذين ينتظرون على هوامش المائدة. مشهد مريع يصوره محمد حسنين هيكل يرتبط بمظاهرات 18 و19 يناير 1977 التي انطلقت بعد إلغاء الدعم عن عشرات السلع الاستهلاكية فاستفزت الشارع المصري، لتشتعل البلاد من الإسكندرية إلى أسوان، وبعد أن أصدر السادات أوامره للجيش بفرض الأحكام العرفية والنزول إلى الشوارع، كان يتحدث مع قائد طائرته الرئاسية، التي كانت هدية من المملكة العربية السعودية، ليجهزها من أجل السفر إلى طهران، حيث يمكن أن يستقبله صديقه الشاه، والمفارقة، أن الشاه هو الذي تقطعت سبل السماء في طائرته بعد الثورة الإيرانية، والذي وجد في القاهرة مستقراً أخيراً. ترك السادات مصر غارقة في ديون قياسية تبلغ عشرة أضعاف ما ورثه من سلفه جمال عبد الناصر، الذي كانت قروضه تنحصر في الاتحاد السوفييتي والكويت وبعض الدول مع أثمان القمح الأمريكي، أما السادات فأدخل صندوق النقد الدولي ومعه تشيس منهاتن وبنوك أخرى كثيرة، فكانت النتيجة كارثية، فما الذي أسقط مصر في المديونية؟ ببساطة تحالفات رأس المال التي سعت إلى الحصول على عوائد الحرب وثمار السلام، وفككت مشروعات الصناعة أو أهملتها، واستمرت في شراء النشوة الشعبية، من خلال الاستمرار في الوظائف وتوسعة قطاعات الخدمات لتستوعب المزيد من نواتج التضخم السكاني، الذي كان جزءاً من الثقافة الشعبية في زمن الزراعة كثيفة العمالة، التي كانت هي الأخرى من ضحايا نظام السادات.
أتت لحظة الانكشاف أمام الحلفاء الأمريكيين الذين وعدوا السادات بالمن والسلوى، تتمثل في تقديرات روكفلر للعائد المناسب لاستثماراته في مصر بثلاثين في المئة، وهو عائد لا يمكن لأي اقتصاد يقوم على أسس سليمة ومنتجة أن يحققه، فحدثت الأزمة مع الدائنين، وكان يتوجب الدخول في تقشف كبير من أجل الوفاء بالالتزامات المترتبة والتي ذهبت عوائدها لبناء صورة السادات وتسمين الفئات المرتبطة بنظامه، وبذلك كانت النهاية المؤسفة لواحدة من قصص المديونية المفرطة وغير المنتجة في المنطقة العربية، والتي تستمر طالما وجدت الأنظمة فئات مستعدة للهتاف من أجل الفتات الذي يتساقط من على المائدة، وفئات أخرى يمكنها أن تشتري الإعلام وأن توظفه لخدمة الأحلام الوردية، التي لا يعلم أحد كيف يمكن أن تتحقق، ولا أحد يمكنه أن يتحمل التكلفة ليبذل ذلك، وكم هي معادلة اقتصادية مختلفة حينما تقتصر على العائد وتهمل التكلفة، فعائد من غير تكلفة مقامرة أو مغامرة لا تليق بالشعوب، ولا يمكنها أن تكون مستدامة مع الوقت.
يدخل العالم موجة جديدة من المديونية المتضخمة، وربما تؤدي في النهاية إلى انهيار النظام العالمي المالي بأسره، إلا أن بعض المديونية أضافت إلى أصول الدول وإمكانياتها الإنتاجية، ويمكن أن تسهم في تمكنها من استغلال الظرف العام من أجل موقع أفضل، أما دول أخرى فبددت ذلك من أجل تجنب الغضب الشعبي واستمرار ضمان الصمت، في مواجهة عملية منظمة لتغذية فئات بعينها تحالفت وأسست لشكل الممارسة السياسية الاقصائية، للاستحواذ على النصيب الأكبر من الكعكة، التي يمكن أن تتحول إلى كعكة (أمل دنقل) الحجرية التي تهشم جميع الأسنان لتترك وراءها دولاً عاجزة عن القبض على الفرص في المدى المنظور، وبذلك يرحل السلم الأهلي ويبقى الدين قائماً.
كاتب أردني