كبسولة عنصريّة سريعة البلع: آسفون لأن عيوننا ليست زرقاء أيها العالم المُتحضر

لو استثنينا التحيز في موضوع تسمية الحرب العالمية، وأنها حكر فقط على الرجل الأبيض، فلا يمكن لأي حرب تجري في الشرق أو الشمال أو الجنوب أن تكون عالميةً؛ لأن حقوق البث عنصريّة جدًا وخاصة بهم وحدهم، عندما يكون الطرفان المتحاربان من البيض أصحاب العيون الزرقاء الفاتحة، فلو استثنينا هذا التحيز من أخذ “وكالة تسمية الحرب العالمية” ومحاولة توطينها لتغدو منتجًا محليًا على الرغم من كل قسوتها، فلا بد أن نكتشف أن العالم عنصري، ومتحيز، ولديه وجهان في غالب الأحيان.
الوجه الأول في حالة السيولة والرخاء، حينها يتقبل الجميع ويعترف بالجميع ولا يعدو على أحد، أما الآخر يبزغ في حالة اشتداد الوطيس والمواقف الحرجة، عندما يبدأ برمي اللوم والعبء على الآخرين المختلفين، الذين غالبًا ما يكونون من ديانات مختلفة وألوان متباينة، ومنابت رأس متنوّعة أيضًا. فالإنسان سيان مع صفة المحبة عند الرخاء، لكنه يغدو وحشًا كاسرًا عندما يُضغط على غرائزه الأولية ويُحرم منها.
وهذه ليست حالة استثنائية، بل طبيعية ومتجذرة في النوع البشري قاطبةً، إذ يقول أحد أبناء الضباط النازيين الذين قابلتهم الإذاعة البريطانية BBC منذ فترة عندما سأله المذيع عن تلك الحقبة: أن التاريخ هو التاريخ، والشروط نفسها في كثير من الأحيان تولد النتائج نفسها، ويُصرح بأن الحالة الاقتصادية تلعب دورًا هامًا في حدوث النزعات العنصرية، فيقول عن الألمان، بأنهم طالما هم في حالة رخاء اقتصادي فلا حاجة للقلق أبدًا من العنصرية ومحاولة قيام نازية جديدة، بينما سيختلف الوضع كثيرًا عندما تمر ألمانيا بأزمة اقتصادية!
حينها سيبدأون بلوم الآخرين؛ المختلفين عنهم لونًا ودينًا وثقافةً، حينها تبدأ التكتلات العنصرية بالتشكّل.. وهذه بشكل عام بذرة تشكّل العنصرية أينما حلت..
فالناس في السلم سيان، إذا ظهرت الشدائد تباينوا!
ما بين مفهوم العنصريّة والألفة
رأى الجميع ما حدث على الحدود الأوكرانية مؤخرًا من موجات نزوح وهجرة، إلا أن ما أثار حفيظة الكثيرين خصوصًا في عالمنا العربي هو العنصرية التي رشحت من كثيرٍ من المراسلين والصحفيين أثناء تغطية تلك الحادثة، فوصف أن هؤلاء النازحين مختلفون وليسوا من الشرق الأوسط بل هم مثلنا أوروبيون، لديهم سيارات وهواتف، عيونهم زرقاء وشعرهم أشقر، هؤلاء أناسٌ متحضرون! هو الذي جعل الكيل يطفح، لدرجة أن بعضهم اضطر للاعتذار والقول إنه لم يقصد أن يعني ما فُهم منه.
لكن لو أردنا تطبيق مبادئ فرويد في أن “زلات اللسان” هي في حقيقة الأمر منفذ حقيقي ومباشر للعقل الباطن اللاواعي الذي يحاول الإنسان أن يكبحه على الدوام، فيبدو أنهم بالفعل يعنون ما يقولون، وأنهم بالفعل يفضّلون اللاجئ المهاجر الأزرق الشبيه بهم، وهذا بشكل ما لا يمكن وصفه كتحيز عنصري إلى حد كبير.
بمعنى.. هناك فرق بين مفهوم العنصرية ومفهوم عدم الألفة، الإنسان بطبعه يميل لمَن يشبهه، الإنسان كائن يتآلف مع من يشبهونه، هذه مسلّمة لا جدال فيها، والفرق والتدخل العنصري يكمن في اتخاذ إجراءات إقصائية اعتمادًا على اختلافهم، وهنا يكون مربط الفرس الحقيقي. فالمشهد على الحدود كان مختلطًا، عندما يضرب أحدهم الآخر ويمنعه من ركوب الحافلة لأنه ليس أشقر أو أبيض، هذه عنصرية لأنها انطوت في داخلها على أفعال، بينما من يقول هؤلاء مختلفون ويشبهوننا، لا تبدو كأنها عنصرية لأن لا أفعال إقصائية فيها.
هل أنتم مستعدون لفعل المثل؟
قد لا يعجب الكلام السابق كثيرين، وهنا لا بد أن نضعهم في نفس موقفهم حتى يشعروا بالحالة تمامًا، لو افترضنا في بلد ما وهو “X” أتى مليون مهاجر من لون آخر ودين آخر، هل تقبلونهم؟ مليون مهاجر بوذي من أصحاب البشرة الداكنة مثلًا، هل يقبلهم عالم الشرق الأوسط؟ لا أعتقد هذا. وليس بسبب العنصريّة، إنما بسبب عدم الألفة، لذلك لا ينبغي كثيرًا أن تُجرح من تلقاء ما يفعلون لأن هذا ديدن الجميع، البعض فقط يجيد إخفاءه أكثر من الآخر، ولعل حرج المجتمع الغربي جاء نتيجة اصطدامه مع مبادئه التي يؤمن بها تحت مظلة المساواة والعدل، أما مقارنة فعلهم مع أفعالنا فهو غير منطقي جدًا لأن لا أحد ها هنا ادعى الالتزام بنفس مبادئهم من الأصل.
في معاني الحضارة والتمدّن..
النقطة الأخرى التي أشير إليها هي كلمة متحضرون / متمدنون أي Civilized، وهنا يحدث اشتباك لغوي لا بد من الإشارة إليه، فما المقصود بمعنى هذه الكلمة؟ متحضر، متمدن؟ ماذا يعني؟ إن التطور الدلالي عبر الزمن لكلمة حضارة ومدنية متباين، وهناك عدة شروط لقياس الموضوع، إلا أن خطين أساسيين يُشار إليهما دائمًا.
الخط الأول هو أن الحضارة في تعريفها الأساسي هي توليفة تشمل الشعوب ذات الثقافة واللغة وكل مشترك بما يشمله من ناحية فيزيائية تتعلق بأراضي معينة، ومشترك ثقافي تكتنفه الفلسفة أو الدين أو العادات والتقاليد، فلو أردنا أن نقارن شعوب العالم من ناحية هذا المعنى، فالشرق الأوسط الذي يوصف حاليًا بأنه غير متحضر هو أكثر مكان على وجه البسيطة متحضر، يكفي أن اللغة المتكلمة عبره لا يشابهها حاليًا سوى اللغات الأصلية الضاربة في التاريخ كالصينية واللاتينية على الرغم من انقراضها، فهذه ليست ملامح حضارية فحسب، إنما جذور حضارية صلبة لا يمكن نكرانها.
أما المعنى الثاني، وهو الذي يقصده المراسلون والصحفيون الذين “يألفون” ثقافاتهم الشقراء البيضاء، هو المدنيّة، أي أن هؤلاء قومٌ متمدنون، يركبون السيارات ويحملون الهواتف، ويقفون في الطوابير، وليسوا كأصحاب الشرق الأوسط الذين غالبًا ما يتخيلون أنهم يعيشون في صحراء واسعة ممتدة إلى ما لا نهاية.
«من الصعب على الإنسان أن يفكر بطريقة نبيلة، إن كان جُل ما يفكر به هو لقمة العيش»
المعنى الثاني قد يكون مفهومًا، لكنه غير حقيقي، من قال إن هؤلاء الناس لا يقفون في الطابور؟ ولا يركبون السيارات؟ من قال إن هؤلاء الناس سيئون؟ المشكلة هي في نبرة الاستشراق التي تحدث عنها إدوارد سعيد والمسيري والحلاق وغيرهم من المفكرين المخضرمين، في أن العالم الغربي يعتقد نفسه المركز لكل شيء، ولا يعتقد إمكانية حدوث مراكز أخرى مُضيئة بعيدًا عنه.
إلا أنه بإمكاننا استخدام نفس المنطق العنصري والقول إن الرجل الأبيض عبر التاريخ كان دائمًا القاتل الأكثر فتكًا! غريب أن الذي يتحفنا حاليًا في الأخلاق والسلام هو صاحب أكبر سجل دموي عبر التاريخ، فحرب عالمية واحدة كلفت 50 مليون شخص حياته. وكلهم بيض! لكن هذا لا ينبغي أن يحدث، لأنه حذار على الإنسان الشريف أن يغدو وحشًا عندما ينتقد الوحوش، فلو استخدموا نبرتهم العنصريّة ضدنا، فلا ينبغي علينا أن نستخدمها أيضًا نحن.
الرد على العنصريّة بالعنصريّة..
الاحتفاظ بحق الرد صعب جدًا عندما تُكال الاتهامات العنصريّة في وجهك إلا أن المعدن الثمين لكل شخص وجماعة وأمة يظهر في مثل هكذا مواقف، فلو أنت مددت يدك لضربي، ما أنا بماد يدي لأضربك، فإن كنت عنصريًا تعتقد بالحقوق فقط لمن يشبهونك، فهو أمر مردودٌ عليك، وحريٌ بالعالم أجمع أن يبدأ بنزع المركزية عمن يدعي مركزية القيم لديه كمثل هؤلاء العنصريين الذين يظهرون بين الفينة والأخرى، المهم في كل هذا الجدل الدائر ألا ينزل الإنسان الكريم إلى المنزلق الذي نزل إليه الآخرون، فالصراع المطوّل والرد عليهم، لا يعني أن تتبع نفس طريقتهم ولا أن تغدو مثلهم.
مع التأكيد دائمًا على أن الإنسان كائن عنصري، لكنه عنصري بمعنى أنه يألف البعض أكثر من غيرهم، وهذا طبيعي، ومطالبة الإنسان برفض ذلك كمطالبة الذئب أن يشرب الحليب وألا يغدو مفترسًا؛ في مخالفة صارخة للطبيعة البشرية والحيوانية، إلا أن الخط الأحمر الذي لا يمكن اجتيازه عندما تترتب على هذه الألفة أفعال مبنية على التحيز بناءً على لون أو عرق أو دين.
حينها لا بد من الحديث والفضح ونزع الهيبة عمّن يدّعي احتكار القيم، خصوصًا أن الإنسان في المواقف الصعبة كالنزوح والهجرة لا يهمه المكان واللون وأي شيء، هو في حالة أساسًا يُرثى لها، تصنيفه وفرزه في ذلك الظرف الإنساني التعيس جرم كبير يشي بمدى المشكلة المتجذّرة التي يحاول الجميع إخفاءها، على الرغم من ظهورها في فلتات اللسان بين الفينة والأخرى كما حدث مؤخرًا.
arajeek