10 سلاسل وثائقية علمية ممتعة تغنيك عن الكثير من الكتب

هناك دائما فرصة ممتعة للتعلُّم عن ذواتنا، ومحيطنا الكوكبي والكوني، من الأفلام الوثائقية، لكن المشكلة الرئيسية في الوثائقيات هي أنها ليست دسمة كالكتب أو حتى المحاضرات، ذلك لأنها تهدف إلى جذب قطاع عريض من الجمهور لا يهتم كثيرا بالعمق لكنه يود أن يلتقط فكرة سريعة عن الأمر، كما أن لها معايير فنية إلى جانب المعايير العلمية.
لكن سلاسل الوثائقيات تحديدا تتجنَّب تلك المشكلة، لأن كُتَّابها يأخذون ما يكفي من الوقت والجهد لاستعراض قضية ما بصورة جذابة لكنها لا تخلو من التفصيل، لذلك فضَّلنا في القسم العلمي بـ “ميدان” أن نُرشِّح لك مجموعة منها، على أن تكون بسيطة قدر الإمكان، ومُتنوِّعة في موضوعاتها وطول كلٍّ منها، ومناسبة لعموم الجمهور.
هذه لا شك واحدة من أمتع سلاسل الوثائقيات العلمية، يُقدِّمها ديفيد إيجلمان، عالم الأعصاب الأميركي من جامعة ستانفورد، في ست حلقات. يدفعك إيجلمان ببساطة للتساؤل عن كل شيء حولك، هل كل ما تراه وتسمعه وتُدركه عموما حقيقي؟ ربما يكون ذلك غريبا بعض الشيء، لكن الإجابة هي أنه ليس كذلك، في الحقيقة فإن ما نُدركه أقرب ما يكون إلى تشوُّه نتفق عليه جميعا، لكنه ليس الواقع بحقيقته.
هل تتخذ قراراتك بنفسك؟ هل تمتلك حرية الإرادة؟ هل هناك أشياء لا تُدركها ولكن تُؤثِّر في قراراتك؟ هل أنت فقط مجرد مجموعة من الإشارات العصبية المتفاعلة معا تفاعلا مُعقَّدا أم أنك “أنت”؟ حسنا، هذا الوثائقي عن العقل قادر حقا على نسف عقلك بسبب قدر الإثارة الذي يُقدِّمه، خاصة مع أسلوب إيجلمان البديع حقا في تقديم علم الأعصاب، وهو واحد من القلائل جدا الذين يمتلكون مقدرة بهذه السلاسة في هذا النطاق.
في هذه السلسلة المكوَّنة من ثلاث حلقات، يتجوَّل الرياضي الشهير ماركوس دو سوتوي، الأستاذ بجامعة أوكسفورد، في بعض فروع تخصُّصه، فيبدأ بالأرقام التي تحكم عالمنا، وكيف أن العالم الطبيعي هو جزء من عالم رياضي خفي يحتوي على القواعد التي تحكم كل شيء على كوكبنا وما وراءه، وينتقل إلى تناول الأشكال في هذا العالم، من خلايا العسل إلى فقاعات الصابون، ليقول إن مثل هذه التشكُّلات بعيدة كل البُعد عن العشوائية ولكنها جزء من رمز خفي يحكم العالم، وأخيرا ينتقل إلى القدرة البديعة للرياضيات، وبالتبعية المعادلات، على التنبؤ بالظواهر في هذا العالم.
السلسلة بسيطة وممتعة حقا، وإن كان من الأفضل لو توسَّعت قليلا في بعض نطاقات الرياضيات الأخرى، وللمُقدِّم نفسه سلسلة سابقة بعنوان “قصة الرياضيات” (The Story of Maths) صدرت قبل نحو 15 عاما، وتُمثِّل السلسلتان معا مُقدِّمة ممتعة جدا لعالم الرياضيات العجيب.
تتميَّز هذه السلسلة الشهيرة التي أنتجتها منصة “ناشونال جيوغرافيك”، ودُبلجت إلى العربية، بأنها مكتوبة بعناية شديدة تُوازِن بين المنجزات العلمية لألبرت أينشتاين بنظريتَيْه النسبيتَيْن والحياة الخاصة للرجل، بحلوها ومُرِّها وحقيرها وطيّبها، سر ذلك في الكتاب الذي أُخذت منه السلسلة، وهو “أينشتاين.. حياته وعالمه” لوالتر إيزاكسون أحد أفضل كُتَّاب سير العلماء المعاصرين، الذي عادة ما يتمكَّن من التعبير عن الإنجاز العلمي للشخصية نتيجةً لقصة حياتها، ومع الاستعراض الفني والبصري الرائع الذي قدَّمته ناشونال جيوغرافيك، فإننا ربما أمام أفضل سلسلة وثائقية تحكي قصة أشهر العلماء على الإطلاق.
لا بد أن واحدا من أكثر الكتب إثارة للانتباه خلال العقدين الماضيين، بين المتخصصين والعامة على حدٍّ سواء، كان “أسلحة وجراثيم وفولاذ” لجارد دايموند، أستاذ الفسيولوجيا والجغرافيا من جامعة كاليفورنيا، تحوَّل هذا الكتاب إلى وثائقي رائع من ثلاثة أجزاء، عرضته مؤسسة ناشيونال جيوغرافيك ودبلجته للعربية.
يسأل الوثائقي: هل نشأت الحضارات البشرية بسبب ذكائنا أو قدراتنا على التحمُّل فقط، أم أن أسبابا أخرى تقف في خلفية كل تقدُّم أحرزناه؟ يقودنا ذلك إلى سؤال آخر مهم وهو: لِمَ تَقدَّم المجتمع الأوروبي بينما بقيت بعض الشعوب في أفريقيا وأستراليا والأميركتين بدائية؟ يُعرِّفك الوثائقي كذلك على أصولنا السحيقة خلال أكثر من 10 آلاف سنة مضت، وكيف كان لأشياء مثل الحيوانات التي استأنسناها أو الحبوب التي أكلناها تأثير عظيم على خط سيرنا التاريخي كله.
الآن دعنا نتأمل سلسلة وثائقية بديعة صدرت قبل نحو 15 عاما، ورغم ذلك لا تجد الكثير من الاهتمام، إنها سلسلة “الذرة” التي يُقدِّمها عالم الفيزياء النووية الإنجليزي، عراقي الأصل، جيم الخليلي، وفيها يتنقل بأسلوب غاية في البساطة بين المراحل المختلفة لتلك الفكرة الأكثر غرابة في تاريخنا، فكرة الذرة، كيف أن كل شيء في هذا الكون، مهما تنوَّعت الأشكال واختلفت، يتكوَّن من ذرات.
يبدأ الوثائقي، الذي يتكوَّن من ثلاث حلقات، من تلك اللحظة التي ظننا فيها أن الذرات ليست إلا كرات مُصمتة من المادة، قبل نحو مئتي سنة، مرورا باكتشاف مكونات الذرة من الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات، انطلاقا إلى المنجزات الهائلة لميكانيكا الكم، وكيف ترى هذا العالم؟ وأخيرا نصل إلى نظرية المجال الكمي وفيزياء الجسيمات، وهنا سترى كيف أننا في فترة قصيرة جدا، مقارنة بتاريخنا الطويل نحن البشر على الأرض، تَمكَّنَّا من الغوص، ليس فقط في أعماق المادة وتركيبها، بل في فهم الواقع نفسه، هل هو حقيقة أم مجرد وهم؟
للخليلي سلسلة أخرى من ثلاث حلقات ممتعة جدا، أنتجتها “BBC” كذلك، عنوانها “الكيمياء: تاريخ مُتقلِّب”. هذه السلسلة متوافقة في موضوعها الرئيسي، وهو التركيب الجوهري لهذا الكون، لكنها تتجه أكثر ناحية استكشاف مكونات الجدول الدوري من العناصر والتفاعلات الكيميائية بينها، وكيف تؤثر الكيمياء في حياتنا اليومية؟
في الواقع فإن هذا النوع من الموضوعات نادر جدا أن يُقدَّم في أفلام وثائقية، لأن الكيمياء في العموم لا تجد اهتمام الكثير من الجمهور، الذي عادة ما يهتم بمنجزات الفيزياء الغريبة، لكن كاتب التقرير في كل الأحوال لا يجد في هذا النطاق أفضل من محاضرات البروفيسور الرائع أندرو زيلدو (Andrew Szydlo) في الجمعية الملكية للعلوم، إنها دائما واحدة من أفضل البدايات الممكنة لشخص يود الاستمتاع بالتعلُّم عن الكيمياء، فهو يستخدم التجارب الباهرة لإثارة انتباه الجمهور ولا يتعمق في أمور أكاديمية أبدا.
أثارت جائزة نوبل في العلوم لسنة 2020 انتباه الناس لتقنيات التحرير الجيني، ولكن ما أثار انتباههم حقيقة لم يكن العلم الذي يقف وراء هذا الأمر وإنما السؤال الأخلاقي، ماذا لو تَمكَّنَّا من العبث بأصل الحياة نفسه، الشفرة الوراثية للحياة على هذا الكوكب، هل هذا جائز؟ هل يمكن أن يتسبَّب في ضرر أكبر من فوائده المُتوقَّعة؟
هذا الوثائقي، الصادر في أربع حلقات من “نتفليكس”، يعرض للأسئلة نفسها التي تدور في دماغك، ويحاول أن ينفذ إلى عالم المرضى المحتاجين -بشدة تدفع للكثير من الحزن- إلى علاجات كهذه، لكنه أيضا يعرض لعالم “هواة التحرير الجيني” الخفي، وهو النقطة الأكثر إثارة للانتباه في تلك السلسلة. رغم أنها لم تتعرَّض بدرجة مناسبة من العمق للعلم الواقع في خلفية التحرير الجيني، وكذلك لم تتعرَّض إلا للتقنيات العلاجية، فإنها تظل واحدة من أفضل ما عُرِض في هذا النطاق. السلسلة غير مُملة، تعرض تجارب إنسانية بطريقة بديعة لدرجة تجعلك تظن أنك تشاهد مسلسلا ما وليس وثائقيا.
إنه لشيء ممتع حقا، ومهم كذلك، أن تتعرَّف إلى نوافذ الآخرين التي يُطلِّون منها على هذا العالم، ولا يوجد ما هو أكثر مدعاة للتأمل من الشعوب الأصلية، هؤلاء الذين ما زالوا يعيشون حياة بدائية، لكنها رغم ذلك تحمل وجهات نظر فريدة من نوعها، خذ الباجاو مثلا في إندونيسيا، هؤلاء الذين لا يعيشون في البر بل البحر، ويتحمَّلون البقاء تحت الماء لخمس دقائق وأكثر، أما التانا توراجا، فإن لهم طقوس دفن غريبة حقا، لوهلة تظنها غير مقبولة، لكن ما إن تفهم سياقاتها حتى يتغير الأمر، في هذا الوثائقي الصادر في 6 حلقات من الجزيرة الوثائقية، لن تتطرَّق إلى الجوانب العلمية الأنثروبولوجية لهذه الشعوب، لكنك على الأقل ستتعرَّف إلى عوالمهم الفريدة.
لا شك أن هذه هي إحدى أشهر السلاسل الوثائقية التي صدرت خلال العقد الماضي، يُقدِّمها الفيزيائي الأميركي الشهير نيل ديجراس تايسون امتدادا لسلسلة سابقة لها قدَّمها كارل ساجان في الثمانينيات من القرن الفائت، وتتكوَّن من 13 حلقة طويلة، بسيطة جدا في طريقة التقديم، ومُعزَّزة بصريا بشكل رائع، تتجوَّل في المقام الأول في نطاق علم الفلك والكونيات، مع إشارات إلى البيولوجيا والجيولوجيا كذلك.
تتأرجح السلسلة بين موضوعين أساسيين، فمن جهة يعمل تايسون على شرح تركيب هذا الكون الواسع، فتارة يتحدَّث عن تطوُّره من لحظة الانفجار العظيم، مرورا بنشأة الأرض، وظهور الحياة عليها، وتارة يتحدَّث عن تركيب النجوم والمجرات والمادة والطاقة المظلمتَيْن، ومن جهة أخرى فهو يستخدم قبسات من تاريخ العلم، رغبة في فتح الباب أمام المُشاهد لفهم المنهج العلمي في التفكير وتطوُّره مع الزمن.
ماذا لو ظهرت الحياة على كوكب ما، لكنه كان ذا جاذبية تساوي ضِعف الأرض؟ ماذا لو كان هذا الكوكب قريبا من قزم أحمر؟ ماذا لو كان غلافه الجوي أخف أو أثقل من غلاف الأرض؟ هذا الوثائقي من إصدار “نتفليكس” هو لا شك تحفة فنّية تجمع ما بين علم الفلك والبيولوجيا والخيال العلمي، في خلطة قلما تراها في صورة فيلم وثائقي يأتي في أربع حلقات ستود ألا تنتهي لا شك.
وظيفة الحياة، في أي مكان وجدت به في هذا الكون الواسع، هو أن تتكيَّف تكيُّفا مذهلا لا يمكن أن تتخيَّله. كوكب الأرض له جاذبية ذات طبيعة محددة، يمر يومه بنمط محدد، يتلقَّى كمَّ ضوء محددا سنويا من نجمه، مناخه شبه ثابت لفترات طويلة نسبيا، كل شيء على سطحه يتكيَّف مع الطبيعة الفلكية والبيئية لكوكب الأرض، وفي هذا الوثائقي، ستتعلَّم عن تلك الفكرة بالنظر إلى أشكال غريبة من الحياة تخيَّل صانعوه أنها ستظهر على كواكب أخرى لها خصائص أخرى.
حسنا، انتهت رحلتنا مع سلاسل الوثائقيات، بالطبع قد يكون هناك ما هو أفضل منها، لكنها مجموعة نعدك أن تكون ممتعة حقا ودسمة معرفيا، بحيث يكون قضاء كل دقيقة معها أفضل استثمار ممكن لوقتك.