مفكر فرنسي: هكذا يمكن لحادث عابر إطلاق حرب نووية

في خضم جائحة كوفيد-19، عندما كانت العقول كلها مركزة على المرض، كرر الفيلسوف الفرنسي جان بيير دوبوي أن التهديد النووي هو الأخطر على الإطلاق، محذرا في كتابه “الحرب التي لا يمكن أن تحدث” من عيوب الردع، وها هي الحرب الروسية على أوكرانيا تعيد تأجيج التوترات الدولية، حتى إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوح بالتهديد النووي.
وفي هذا السياق، التقت مجلة “لوبس” (L’Obs) الفرنسية فيلسوف “الكارثية المستنيرة” جان بيير دوبوي وسألته عن حقيقة الخطر النووي الذي لاح في بداية الحرب وتناساه الناس وكأنه أمر لا وجود له، ليشير إلى ما قاله الفيلسوف غونتر أندرس -المنظّر العظيم لهذا “العمى في وجه نهاية العالم”- عندما أكد منذ خمسينيات القرن الماضي، الفجوة المتزايدة بين ما يمكننا فعله وما نحن قادرون على التفكير فيه.
وفي المقابلة -التي استعرضها ريمي نويون- أوضح دوبوي أن هذا الإهمال ما زال مستمرا في وسائل الإعلام من قبل شخصيات مثل برونو ترتري، هذا الخبير السياسي الذي يكرر باستمرار أن بوتين لن يضغط على الزر النووي أبدا، أما أنا “فأطروحتي هي أنه ليست النيات السيئة هي التي ستسبب الحرب النووية، بل حادث ما وسلسلة من الأخطاء والإنذارات الكاذبة وسوء الفهم”.
وذكّر الفيلسوف بما قاله روبرت ماكنامارا، وزير دفاع الولايات المتحدة الأسبق في فيلم “ضباب الحرب”، عندما قال “قاربنا الكارثة عشرات المرات خلال الحرب الباردة، ولم تحدث لأنه كان لدينا حظ سعيد”، واقتبس قول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في مقابلة مع مجلة “بلاي بوي” عام 1990 “أعتقد أنه لا يوجد شيء أكثر غباءً من الاعتقاد بأن الحرب النووية لن تحدث أبدا لمجرد أن الجميع يعلم أن الأسلحة النووية لها قوة تدميرية هائلة، وبالتالي سنمتنع عن استخدامها”.
وقال الفيلسوف “نعم. هذه أطروحتي ملخصة في جملة واحدة، وترامب هو من قالها”، وأشار إلى “ساعة يوم القيامة التي ضبطها علماء الفيزياء الذرية على 7 دقائق قبل منتصف الليل بعد هيروشيما وناغازاكي في عام 1947، وتم تقديمها وتأخيرها عدة مرات بعد ذلك، لتصل الآن إلى ما قبل منتصف الليل بـ100 ثانية”، وقال إنه مندهش من أن اندلاع الحرب في أوكرانيا لم يجعلها أقرب إلى اللحظة المميتة.
إطلاق عند التحذير
وعند السؤال عن الذي يمكن أن يتسبب في وقوع حادث يؤدي إلى حرب نووية، رد منظر الكارثية بأن سكان هاواي ظنوا أن صاروخا نوويا أطلق على أرخبيلهم في يناير/كانون الثاني 2018، لما يقرب من 40 دقيقة، وكان ذلك عائدا إلى إنذار كاذب، بسبب إساءة مسؤول تفسير رسالة مسجلة في أثناء التمرين، فماذا كان سيحدث لو كان هذا المسؤول جنديا؟
لدى كل من الأميركيين والروس -حسب الفيلسوف- عقيدة إطلاق تحذيرية، بحيث يمكن إطلاق الصواريخ على أساس وحيد، هو الكشف عن حالة التأهب، قبل أي انفجار، والفكرة من وراء ذلك هي تجنيب البلد تدمير صواريخه من خلال الهجوم الأول للعدو.
لقد سمع الجميع في الأيام الأخيرة عن “ضباب الحرب”، وهو يعني -حسب نظرية الإستراتيجي البروسي كلاوزفيتز- أن كل النزاعات البشرية تميل إلى “الصعود إلى أقصى الحدود”، إلا أن الأمور العسكرية تتكون من معلومات مجزأة لحسن الحظ، من أمر لا يصل إلى المرسل إليه أو من فوج يتعثر، أي من “ضباب” يؤخر ويمنع التدمير المطلق، غير أن العكس هو الصحيح في ما يتعلق بالحرب الذرية، إذ إن الإخفاقات أو المعلومات الخاطئة تعجل بالتصرف.
وعند السؤال عن الحرب النووية “المتدرجة”، بعد أن كثر الحديث عن أسلحة روسيا “التكتيكية” التي يمكن أن تستخدمها ضد مدينة في أوكرانيا لإثارة الدهشة، رد الفيلسوف بأن السبب هو أن جميع الإنذارات الكاذبة يمكن أن تؤدي في عالم متوتر إلى حدوث مذبحة.
إنني مندهش من تفاجؤ الناس من مفارقة كون بوتين يعتبر أوكرانيا شعبا شقيقا ومهد روسيا الحديثة ويسعى لتدميرها، وهو ما لا أرى فيه أي تناقض؛ إذ يتعلق الأمر بالغيرة، بحيث يسعى المرء -إذا لم يتمكن من الحصول على مرغوبه- إلى أن يحرم الآخرين من الحصول عليه، و”الآخرون” في حالة أوكرانيا، هم الغرب بالطبع
لماذا تعتقد أن “الردع” النووي وهم؟
من أجل الرد على هذا السؤال، قال دوبوي إنه مدين بالكثير لكتاب “آلة يوم القيامة” (The Doomsday Machine) لكاتبه الاقتصادي دانيال إلسبيرغ -الذي عُرف بسرقته “أوراق البنتاغون” التي عجلت بسقوط الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون- فهو “مخطط حرب نووية”، وتتمثل نظريته في أن الولايات المتحدة لم تأخذ الردع على محمل الجد أبدا، وأنها كانت دائما مستعدة للضرب أولا، وهو ما يسمى “الضربة الوقائية” أو “الضربة الثانية” أولا.
وإذا كان الردع يتمثل في إقناع الآخر بعدم التحرك لأنه إذا فعل ذلك، فإنه يعرّض نفسه -على حد تعبير بوتين- “لعواقب لم يختبرها من قبل”، فإن الإجراءات الوقائية عكس ذلك، وهي تتمثل في أن عليك أن تقنع الآخر بأنك مستعد لمهاجمته أولا، وأنك تعتقد أنك فوق ردود أفعاله الانتقامية، وقادر على صد رؤوسه الحربية، وهو أمر مستحيل لأنه لا يوجد درع صاروخي يعمل بنسبة 100%، وهذا -ووفقا لإلسبيرغ- ما شرعت الولايات المتحدة في القيام به، لتقليل الضرر الناجم عن الضربة السوفياتية، ردا على الضربة الأولى التي توجهها أميركا.
نظرية “المجنون”
وبالتالي، الردع النووي يعني -حسب الفيلسوف- أننا لا نسعى للدفاع عن أنفسنا، وهذا هو معنى معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية الموقعة في موسكو عام 1972، إذ تعهد كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وقتها بالحد من استخدام تقنيات الدفاع والدروع المضادة للصواريخ، لأنك إذا لم تدافع عن نفسك، فأنت تمنح الآخر ضمانا بأنك لن تهاجم أولا، لأنك إذا قمت بذلك فإنك تعرض شعبك لمحرقة، مع أن ذلك يتعارض مع كل ما تعلمه الجنود في مدرسة الحرب.
ومشكلة الردع هي أنه يقوم على مفارقة، ولا يمكن أن ينجح إلا إذا اعتبر كل من الطرفين أن الآخر غير عقلاني، فإذا أحرق نصف أراضيك، فمن غير المنطقي الرد من خلال المخاطرة بالتسبب في إحراق النصف الآخر، وللتغلب على هذه الانحرافات، حدد الإستراتيجيون النوويون “الإطلاق عند التحذير” أو تلقائية الاستجابة.
هذه هي نظرية “الرجل المجنون” التي تحدث عنها الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون في أثناء حرب فيتنام، مرددا صدى نظرية “المجنون” للدمار المتبادل المؤكد، إذ أراد من مستشاره للأمن القومي أن يخبر الفيتناميين الشماليين عبر السوفيات أن الرئيس كان “مهووسا” بالشيوعية، وغير قادر على السيطرة على نفسه، وقد استحوذ عليه غضب هائل، بحيث اقتربت يده بشكل خطير من الزر الأحمر، إلا أن أحدا لم يأخذ ذلك على محمل الجد.
ربما يلعب بوتين دور المجنون -كما يقول دوبوي- ويضيف “وربما يكون مصابا بجنون العظمة، لا أحد يعلم”، إلا أنه يستدرك بقوله “إنني مندهش من تفاجؤ الناس من مفارقة كون بوتين يعتبر أوكرانيا شعبا شقيقا ومهد روسيا الحديثة ويسعى لتدميرها، وهو ما لا أرى فيه أي تناقض؛ إذ يتعلق الأمر بالغيرة، بحيث يسعى المرء -إذا لم يتمكن من الحصول على مرغوبه- إلى أن يحرم الآخرين من الحصول عليه، و’الآخرون‘ في حالة أوكرانيا، هم الغرب بالطبع”.