السرّ الأول في نجاح الشركات وفشلها.. لماذا يجب أن توظف الأذكى منك دائما؟
أثناء الحرب العالمية الأولى، وبينما كانت أوروبا تشتعل بمعارك ضارية يسقط فيها ملايين القتلى، كان رجل الأعمال والصناعي الأميركي المخضرم “هنري فورد” يواجه هجوما ضاريا هو الآخر في الصحافة المحلية الأميركية، السبب في هذا الهجوم هو أن فورد كان مشغولا طوال فترة الحرب بنداءات السلام ووقف الحرب، وهو ما اعتبرته الصحافة آنذاك تفتيتا للعزيمة الوطنية، خصوصا بعد اتخاذ أميركا قرارها بالانضمام إلى الحرب.
ومع وطأة الهجوم، نشرت صحيفة شيكاغو مقالات ساخرة من فورد، وصفته فيها بـ”نصير السلام الجاهل”، وهو ما أثار غضب فورد بشدّة، فقرر رفع دعوى قضائية ضد الصحيفة بتهمة توجيه السباب والقذف في حقه. ترافع المحامون المدافعون عن الصحيفة قائلين إن الصحيفة لم تخطئ بحق فورد إطلاقا عندما نعتته بهذا الوصف. فهو -من وجهة نظرهم- بالفعل نصير للسلام، وبالفعل جاهل! وتحدى المحامون المحكمة بأنهم سيطرحون مجموعة من الأسئلة على فورد والتي تثبت أنه، وعلى الرغم من خبرته الكبيرة في عالم الصناعة والسيارات، يظل جاهلا.
جلس فورد في المحكمة، ليفاجأ بأسئلة غريبة يمطرها عليه المحامون، كلها تختبر معلوماته العامة، تسأله عن شخصيات وأحداث تاريخية، سكت فورد عنها جميعا ولم يرد. وفي النهاية، ومع أحد الأسئلة الاستفزازية التي وجّهها إليه أحد المحامين، فقَدَ فورد أعصابه وقال غاضبا وهو يشير إليهم:
“إن أردتم فعلا الإجابة عن هذه الأسئلة الغبية التي تسألونها، دعوني أذكركم أن لديّ صفا من الأزرار الكهربائية في مكتبي، بمجرد أن أضغط على الزر الصحيح يمكنني استدعاء الأشخاص الذين يستطيعون الإجابة عن أي سؤال أرغبه. الآن، هلّا أخبرتموني لماذا أزحم عقلي بمعرفة كل شيء في الوقت الذي فيه حولي أناس يمكنهم إمدادي بالمعرفة التي أريدها في أي وقت؟!”
كتاب “فكر تصبح غنيا”
يعلق “نابليون هيل” على هذا الموقف الذي نقله في كتابه ذائع الصيت “فكّرْ تصبح غنيا (Think and grow rich)” الصادر في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، قائلا بأن إجابة فورد أسكتت جميع المحامين، واتضح للجميع أن هذا الرجل أبعد ما يكون عن الجهل، وأنه وإن كان يفتقد إلى المعلومات في رأسه، فإنه يملك سبل الوصول إلى كل أنواع المعرفة العامة والمتخصصة بسهولة أكثر من غيره، لأنه يعتمد بشكل كامل على فريق من المتخصصين(1).
درس متأخر في الأعمال
عندما دخل الملياردير البريطاني السير “ريتشارد برانسون”، مؤسس العلامة التجارية “فيرجن (Virgin)” التي تنضوي تحتها أكثر من 400 شركة عالمية دولية، عندما دخل إلى قاعة الاجتماعات، وجد في انتظاره عددا كبيرا من الموظفين والمحللين الماليين الذين سوف يستعرضون أمامه أهم البيانات المالية الخاصة بشركاته حول العالم.
كان هذا في نهاية التسعينيات، وكان برانسون وقتذاك قد وصل إلى الخمسين من عمره، وحاز شهرة كبيرة في بريطانيا والعالم بسبب مؤسسته التي تعمل في جميع المجالات، بداية بالفندقة، مرورا بالطيران والموسيقى والترفيه، وليس انتهاءً بصناعات السينما والفضاء. كان الرجل تجسيدا كاملا لرجل الأعمال الناجح متعدد النشاطات، وهو ما جعل مساعديه في هذا الاجتماع يبدو عليهم التوتر الشديد أثناء استعراضهم بيانات الشركة، خوفا من أن يفاجئهم رجل الأعمال المخضرم بأسئلة معقدة.
أثناء الاجتماع، استوقف برانسون أحد موظفيه، طارحا عليه أغرب سؤال يتخيل أن يسمعه: هل هذه الأرقام والرسومات البيانية تخبرنا بأننا في موقف جيد أو موقف سيئ؟! ظنّ الموظف أن برانسون يريد المزيد من التوضيح، فبدأ يشرح له بشكل أكثر توسعا، فقاطعه برانسون مرة أخرى بسؤاله عن الفرق بين مصطلحين يرددهما الموظف بشكل مستمر، وهما “صافي الربح” و”إجمالي الربح”، قائلا إنه لا يعرف المقصود بكلا المصطلحين.
للوهلة الأولى ظن الموظف أن برانسون يسخر منه، لأنه من المستحيل أن يكون رجل أعمال بثروة وطموح ونفوذ برانسون لا يعرف الفرق بين مصطلحين يعرفهما كل طالب لا يزال يدرس أساسيات الأعمال. أعاد الشرح مرة أخرى، فأعاد برانسون تأكيده بأنه لا يفهم المقصود فعلا، ما جعل أحد مساعديه يتدخل مُحضرا ورقة بيضاء، ورسم عليها ما يشبه بحيرة زرقاء بداخلها العديد من الأسماك، ثم رسم ما يبدو أنه شبكة صيد تحتوي بعض الأسماك، ثم أخبره أن البحيرة هي الإيرادات، والأسماك في البحيرة إجمالي الربح، أما الأسماك في شبكة الصيد هي صافي الربح بعد خصم التكاليف.
أخيرا، أعلن برانسون أنه فهم الفرق بين المصطلحين، وقال في إحدى تغريداته إن معرفته الفرق بين هذين المصطلحين كان من المهارات التي تعلّمها متأخرا في حياته، بعد أن أصبح مليارديرا بسنوات طويلة بالفعل(2، 3).
اكتساب الخبرة.. أم إحاطة نفسك بالخبراء؟
“نحن لا نوظف الأشخاص الأذكياء لكي نخبرهم ما عليه أن يقوموا به، نحن نوظف الأشخاص الأكثر ذكاء منا ليخبرونا هم ما الذي يجب علينا نحن أن نفعله”
(ستيف جوبز، مؤسس شركة أبل)
لم يكن هنري فورد جاهلا عندما لم يستطع الإجابة عن الأسئلة التي وُجهت إليه وهو مَن هو في تاريخ الصناعة الأميركية، ولم يكن الملياردير ريتشارد برانسون ساذجا عندما جهل أبسط مصطلحين في عالم المال والأعمال، بل كان كلاهما تجسيدا واضحا للرجل الناجح الذي يعتمد على توظيف الخبراء بدلا من السعي لاقتناء المعرفة في جميع مجالات الحياة.
في دراسة نشرتها مؤسسة “هارفارد بزنس ريفيو”، ووصفتها “فوربس” بالدراسة المُدهشة، أُجريت على 855 مديرا تنفيذيا في مؤسسات مالية وتجارية كبيرة، وُجد بوضوح أن المديرين التنفيذيين الأقل خبرة يُظهرون أداء أفضل من المديرين التنفيذيين ذوي الخبرة الكبيرة. حيث أظهر التنفيذيون الذين تولوا للمرة الأولى مهمات إدارية كبيرة في شركاتهم قدرة على تحقيق إنجازات ملحوظة، بينما حقق التنفيذيون ذوو الخبرات الكبيرة السابقة إنجازات أقل.
عللت الدراسة هذه المُخرجات بأن المديرين التنفيذيين الأقل خبرة دائما ما يميلون إلى توظيف الكفاءات والخبرات التي تعوّض نقص خبراتهم، ويستهدفون إحاطة أنفسهم بأفضل الكفاءات لتنفيذ الأهداف بأقل قدر من الفشل، وعادة ما يقومون بتنفيذ ما يوصي به الخبراء دون تدخل منهم. بينما يميل المديرون ذوو الخبرة الكبيرة إلى توظيف الموظفين الأقل خبرة الذين ينفذون رؤية المدير، ويتفردون بتنفيذ رؤاهم الخاصة دون الرجوع بشكل كبير إلى توصيات الموظفين والخبراء(4).
لا بأس بأن تكون الأقل ذكاء وخبرة في الغرفة
“في بداية مسيرتي المهنية، كنت أتردد كثيرا في توظيف أشخاص أعتقد أنهم أكثر ذكاءً مني. صدِّق أو لا تصدق، كنت أشعر ببعض الكبرياء، لم أكن أقبل بسهولة أنني لست الشخص الأذكى في الغرفة. كنت أقلق من فقد احترام الآخرين، تصورت بأنني ما دمت أشغل منصب المدير فيجب أن أملك جميع الإجابات” – زينب إلجاز، مؤسسة شركة ناشئة تقنية
في تدوينة شهيرة نُشرت على موقع “INC” للأعمال بواسطة “فيل ليبين”، المدير التنفيذي والمؤسس المشارك لمنصة “إيفرنوت (Evernote)” لإدارة المهام والملاحظات، بعنوان “لماذا من الحكمة أن تقوم بتوظيف أشخاص أكثر ذكاء منك؟”، اعترف “ليبين” أن أحد الأخطاء القاتلة التي ارتكبها في مسيرته المهنية هو أنه كان يعتقد لفترة طويلة قدرته على متابعة كل الأعمال التي يقوم بها موظفوه، وأن دورهم هو -فقط- تنفيذ ما يطلبه منهم.
يقول “ليبين” إنه كان دائما يسعى إلى تعلُّم كل شيء بخصوص أعمال موظفيه، ولكنه أدرك في النهاية أن أداء كل موظف في عمله أفضل بكثير مما يستطيع إنجازه هو، وأنه إذا أعطى موظفيه الموهوبين الفرصة لمباشرة أعمالهم دون تدقيق إداري في كل التفاصيل فلن تكون النتيجة فقط مستوى أداء أفضل لأعمالهم، ولكن فرصة أكبر لاستبقاء أفضل الموظفين الذين يعملون لديه، حيث تشير بعض الإحصاءات إلى أن 75% من الموظفين يغادرون وظائفهم بسبب المديرين المتحكمين في أعمالهم.
في نهاية مقالته، يؤكد ليبين ما اتفق عليه كبار المديرين في العالم من أن مبدأ توظيف الأشخاص الأذكى لا يجب أن يكون مثيرا لحفيظة المدير أو ضيقه، بقدر ما يفتح له خيارات أوسع بتسيير أعمال المؤسسة دون الحاجة إلى وجوده أو اهتمامه بكل التفاصيل. بل إن وجود الموظف الأكثر ذكاء وخبرة من مديره يقلل من أخطاء المدير نفسه في معظم الحالات(5، 6).
خطأ توظيف الأشخاص الخطأ
“يمكنني القول إن أكبر خطأ على الإطلاق هو التوظيف السيئ. إذا بدأت بتوظيف الأشخاص الخاطئين فسيؤدي ذلك إلى اتخاذ قرارات خاطئة، ومن ثم إعادة توظيف أشخاص خاطئين؛ ما يؤدي إلى دائرة مغلقة لا تنتهي من الأخطاء. على مدار 11 عاما، كلّف التوظيف الخاطئ شركتنا زابّوس (Zappos) خسائر تقدر بـ100 مليون دولار على الأقل”.
هكذا اعترف “توني شاي”، رائد الأعمال المميز الذي أسس شركة “زابّوس (Zappos)” الشهيرة للتجارة الإلكترونية، والذي رحل عن عالمنا في العام 2021 إثر حريق شبّ في منزله. كان شاي مهووسا بوضع نظام شديد الجودة لتوظيف الموظفين الجدد، يمر عبر مجموعة من الاختبارات المرنة الفعالة التي تركز على الأشخاص الذين لديهم قدر أعلى من المهارات والمعرفة تمكّنهم من اتخاذ قرارات صحيحة، دون الحاجة إلى الرجوع بشكل مستمر لإدارتهم العليا في المهمات الروتينية المعتادة.
وضعت زابوس نظاما يقتضي أن يُجرِي كل مرشّح للوظيفة مقابلتين شخصيتين مع مديرين مختلفين، وذلك بهدف تقليل فرصة قيام أحد المديرين باستبعاد مرشح مميز بسبب قلقه من التفوّق عليه. مرور المرشح بأكثر من مقابلة شخصية مع أكثر من مدير سيقلل من احتمال استبعاد المديرين للموظفين المبدعين، وسوف يضمن ضم أكبر عدد من المواهب وعدم التفريط بهم.
أما “إريك شميدت”، الرئيس التنفيذي السابق لغوغل والذي تخرج في جامعة “برينستون” ونال الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا، وتقدر ثروته بحوالي 22 مليار دولار، ويعتبر واحدا من أذكى العاملين في عالم التقنية اليوم؛ فقد وضع قاعدة أساسية للتوظيف في غوغل تقول: وظِّف الأشخاص الأذكى منك والأكثر معرفة، ولا توظف أشخاصا لا يمكنك أن تتعلّم منهم أو أن يشعروك بالتحدي.
يقول شميدت إن متوسط الساعات التي يقضيها المدير برفقة موظفيه يكون أكثر مما يقضيه مع أسرته، وهو ما يجعل من الضروري أن يتأكد أن الأشخاص الذين وظّفهم يساعدونه على الذهاب إلى حدود جديدة واستكشاف آفاق إبداعية. المدير الذي يستهدف طوال الوقت ظهوره بمظهر الذكي والأكثر خبرة، هو -قطعا- شخص يهدر وقته بلا طائل بالتواصل مع موظفين أقل معرفة وذكاء وقدرة(6).
في النهاية، بالتأكيد “هنري فورد” لم يكن جاهلا حتى لو غابت عنه المعلومة، لأنه يحيط نفسه بالمتعلمين وأصحاب الخبرات والمعارف المتخصصة، و”ريتشارد برانسون” لم يكن ساذجا حتى لو لم يفهم أبسط المصطلحات، لأن من شرحها له كان أحد موظفيه بالفعل. وتظل المعادلة النهائية لتميز شركات بعينها وتراجع شركات أخرى، قائمة بشكل كامل على معادلة أساسية: وظِّف مَن هو أذكى وأكثر خبرة منك، وسوف تسير السفينة إلى وجهتها بأقل قدر من الأخطاء.