أول علاج لسرطان الدم … أمل جديد للآلاف من مرضى السرطان حول العالم

أموالٌ لا تحصى كانت وما زالت تضخّ في سبيل اكتشاف علاجٍ للسرطان، مع تلك الوعود المتكرّرة التي تنطق بها أفواه العلماء والأطباء حتّى أصابت مسامع المرضى وذويهم بالضجر وخيّمت بغمامة اليأس على أرواحهم التوّاقة للأمل. رغم الكثير من الدراسات والتجارب الواعدة والخائبة على مدار العقود الفائتة، ما زلنا لم نتمكّن من الوقوف بوجه دوّامة السرطان الآخذة بالترقي والعصيان على أغلب البروتوكولات العلاجيّة، ليبقى العلماء في تحدٍّ كبير واستنفارٍ مستمرّ ضمن نهايةٍ مجهولة. تجري أبحاث السرطان اليوم بأقصى سرعة ممكنة، مستفيدةً من جميع التطوّرات التكنولوجية التي حقّقها العلم خلال السنوات الأخيرة. لكن هل يعني ذلك التوّصل إلى علاج نهائي للسرطان؟
من يخفي علاج السرطان في جعبته؟
تلك الخرافة الشائعة بأنّ شخصاً ما “يخفي” علاج السرطان يصعب تصديقها أو أخذها على محمل الجدّ. من المهم أن نتذكّر أنّ العالم بأسره قطع شوطاً طويلاً في رحلة مكافحة السرطان، بدءاً من الأبحاث والتجارب مروراً بالمصادقة على بروتوكولات علاجيّة أثبتت فعاليتها وصولاً إلى ما أحرزه العلماء من تقدّم تشهد له حياة المرضى الناجين من فتك السرطان. على سبيل المثال لا الحصر، تشهد المملكة المتحدة تضاعف معدل البقاء على قيد الحياة بعد الإصابة بالسرطان خلال الأربعين عاماً الماضية، ففي سبعينيات القرن الماضي، نجا 25٪ من المرضى لمدة 10 سنوات أو أكثر بعد تشخيصهم بالسرطان، ليرتفع الرقم إلى 50٪ في يومنا هذا.
إن كانت هناك حقيقةٌ ثابتة يمكن الإجماع عليها فهي أنّ السرطان مرض معقّد، ولن نجد أبداً علاجاً واحداً لتلك الأنواع المختلفة من السرطانات التي تتصرّف بشكل متغايرٍ نظراً لاختلافها على المستوى الجيني والجزيئي.
تجربة خلوية جديدة تعد بعلاج طويل الأمد لمرضى سرطان الدم
ذكرت دراسة في جامعة بنسلفانيا تمّ نشرها الأسبوع الماضي في المجلة العلمية Nature، عن تجربة علاجيّة تمكّنت من إزالة سرطان الدم اللمفاوي المزمن في اثنين من بين ثلاثة مرضى خضعوا لذلك الاختبار منذ عام 2010. بعد متابعة ومراقبة حثيثة استمرّت مدّة 10 سنوات، تبيّن أنّ السرطان لا يزال يقبع في طور الهجوع دون العودة إلى حالة النكس، ممّا يبشّر بنتائج واعدة بالوصول إلى حالة التعافي المستدام من سرطانات الدم. حيث سيخضع العلاج لعدّة تجارب سريرية ليشمل أنواع أخرى من السرطان والأمراض، ليكون بمثابة الأمل الوحيد للمرضى الذين يعانون من انعدام فرص البقاء على قيد الحياة.
علاج CAR T-cell أملٌ جديد يلوح بالأفق
أطلق على الاكتشاف الجديد اسم العلاج بالخلايا التائية المعدّلة بمستقبل المستضد الوهمي، أو العلاج بالخلايا التائية CAR، وهو أوّل علاج خلويّ مصنّع من الجهاز المناعيّ الخاصّ بالمريض، وقد تمّت الموافقة عليه لأوّل مرّة من قبل إدارة الغذاء والدواء (FDA) في عام 2017.
تنطوي خطّة هذا العلاج على إزالة الخلايا المناعية المعيبة من المريض، المحتمل توّرطها مع السرطان، ومن ثمّ إعادة هندستها وراثيّاً في المختبر لاستهداف وقتل الخلية السرطانية على وجه التحديد.
قد تكون تلك التجربة أقرب إلى قصص الخيال العلمي، محرّكها الرئيس الخلايا التائية التي تمتلك مستقبلات مصمّمة بشكل فريد على التقاط الخلايا السرطانية وتمييزها، ومن ثمّ قتلها عن طريق حقنها بالسموم. في بعض الأحيان، قد تنجح الخلايا السرطانية بالهروب من الخلايا التائية وهذا ما يحدث عند غزو السرطان لخلايا الدم ونموّه بشكل سريع.
بحسب أطباء الأورام المشرفين على هذه الدراسة، حالما يبدأ العلاج بالتمكّن من القضاء على سرطانات الدم، سنشهد ثورة علميّة في استخدامه كعلاج اختراقيّ للعديد من الأمراض الأخرى في المستقبل القريب.
رحلة أحد المحاربين الخاضعين لأوّل تجربة علاجية في ولاية كاليفورنيا
“آلان جاينز” ذو الـ 77 عاماً، المشخّص بمرحلة متقدمة من سرطان الغدد اللمفاوية الذي يدعى بـ “لمفوما لا هودجكن”، خضع لعدّة أشواط علاجية لم يكتب لها النجاح أو إحراز أيّ تحسّن على حالته. عندما عرض عليه الطبيب جوزيف توسكانو، أخصّائي الأورام بجامعة كاليفورنيا في مركز Davis Health، خوض التجربة السريريّة لإزالة الخلايا المقاومة للسرطان من جسمه وإعادة برمجتها على مهاجمة مرضه، لم يتردّد جاينز بالخضوع للاختبار مصرّحاً: “لديّ شهادة جامعية في الهندسة، وأدرك أهمية العلم”. أخبرت زوجتي أنّني سأذهب من أجل ذلك، فإذا لم ينجح معي، ربّما سيساعد المرضى الآخرين في المستقبل.”
إنّ الشجاعة والجرأة ليست بالأمر الجديد على مقاتل انخرط في الصفوف الأماميّة لحرب فيتنام، فالمهندس جاينز الذي صارع أشرس نوع من سرطان الغدد اللمفاوية المعنّد على جميع العلاجات المتاحة والممكنة، والآخذ بالترقي تدريجياً نحو الوفاة، لم ينجح علاج CAR T-cell عليه فحسب، بل أصبح الطيار المتقاعد مريضاً رائداً، حاملاً راية أمل جديد للآلاف من مرضى السرطان حول العالم.
رحلة تعديل الخلايا من المريض إلى المختبر
تتمّ إزالة الخلايا التائية أولاً من دم المريض أثناء عملية تسمى “فصادة خلايا الدم البيضاء”. حيث يبقى المريض جالساً ومستلقيّاً لمدّة ساعتين إلى ثلاث ساعات بعد عملية النقل. ترسل الخلايا التائية إلى المختبر عبر ثلّاجة متنقلة، لتخضع للتعديل الوراثي بإضافة جين خاصّ بالمستقبل. على مدار عدّة أسابيع، تزرع الخلايا التائية المعدّلة في وسط مغذّ ضمن المختبر حتّى يصل عددها إلى الملايين من الخلايا. بمجرّد أن تنضج وتتجمع، تصبح خلايا CAR T جاهزةً لإعادة ضخّها في المريض. لكن قبل ذلك سيتعرّض المريض لشوطٍ من العلاج الكيميائي لتوفير مساحة أكبر لخلايا CAR T للتوّسع أثناء قهر الخلايا السرطانية وتدميرها.
تداعيات العلاج وآثاره
يعتبر العلاج بالخلايا التائية ذات مستقبلات المستضدات الوهمية فعّالاً للغاية، لكنه قد ينطوي على بعض الآثار الجانبية الخطيرة. فعندما تتكاثر الخلايا التائية المعدّلة في الجسم ستفرز مواد كيميائية في الدم تسمّى السيتوكينات الالتهابيّة، والتي يمكن أن تتسبّب باستنفار جهاز المناعة بأعراض تشتمل على ارتفاع درجات الحرارة، والغثيان والإقياء، فضلاً عن آلامٍ في العضلات والمفاصل. لهذا السبب يجب تقديم العلاج في مركز طبيّ مدرّب بشكل خاصّ على استخدام العلاج ومراقبة المرضى عن كثب.
سيتعيّن على المرضى المكوث في المستشفى لمدّة أسبوع على الأقلّ بعد تلقي العلاج. كذلك يتوّجب عليهم البقاء بالقرب من مركز علاجهم لمدّة شهر على الأقلّ لمتابعة نتائج العلاج.
في الوقت الذي نشهد فيه تصاعد حدّة المنافسة بين مراكز الأبحاث حول العالم، يتعيّن على مطوّري العلاج أن ينجحوا في إثبات قوّة ونجاعة علاجهم الجديد مع تقديم ضمان لسلامة المرضى، وهنا يأتي التحدّي الأكبر بتجاوز ضباب الممانعة الذي يطلقه جسم المريض متمرّداً على العلاج مخيّباً لكثير من الجهود المبذولة.
باتت محاولة نزع السرطان من الجسم كلّياً أشبه بالحرب الحقيقية التي يخوضها الجنود مع عدم اليقين من الخروج منها سالمين. لكن ما يحتاجه المرضى اليوم ضمانات واقعيّة ونتائج ملموسة يقدّمها لهم مطوّرو العلاج بأبحاثهم الدائمة وتجاربهم العمليّة بعيداً عن أيّ تزييف أو إيهامٍ تروج له شركات الأدوية أو تطلقه خلطات العلاج بالأعشاب والحشائش.
مع إحراز تقدّم مذهل في علاج سرطان الدم، يبقى السؤال الأهمّ هل سيكون هناك علاجٌ لجميع أنواع السرطان في الوقت الحاليّ أو ربّما في المستقبل القريب؟
بكلّ تأكيد، يزداد الأمل يوماً بعد يوم بفرصة التغلّب على المعاناة والآلام التي تختلج أجساد مرضى السرطان وأرواحهم. فقد يغدو الحلم الذي طال انتظاره حقيقةً تنهي حقبة السرطان وتنتصر لضحاياه. من يعلم؟