نوبل 2020 تقلب المواجع العربية
عن دار سحر بتونس يصدر أحدث كتاب للأديب التونسي المهاجر أبوبكر العيادي بعنوان “نقاط على بعض الحروف” يتضمن الآراء المهمة جدًا لأديبنا التونسي البارز التي تحمل في معظمها إجابة عن أكثر الأسئلة حضورًا في أذهان المبدعين العرب حول أسباب غياب الإبداع العربي عن أنظار صناع القرار الثقافي في الغرب، ونفيه عن لجان منح الجوائز الأدبية العالمية التي لخصت إبداع العرب الحديث كله في روايات محفوظ.
يقول أبوبكر العيادي إن من أهمّ أسباب ضمور أدبنا عالميًا ما أسماه الكاتب رفائيل كونفيان “الأوروفونية المنتصرة”، أي هيمنة اللغات الأوروبية على الفضاء الأدبي العالمي.
كما أشار العيادي إلى أن محاولات انخراط أدبنا العربي في الفضاء العالمي ظلت تصطدم بعائقين: أولهما أنه وُجد في ظروف سياسية واقتصادية لا تزال تنتمي إلى العالم الثالث، رغم الجهود المبذولة طوال القرن العشرين للأخذ بأسباب الحداثة وتطوير أشكال هذا الأدب ومضامينه. وثانيهما المزاحمة التي يلقاها داخل فضائه الجغرافي نفسه من الإنتاج الناطق بلغات المستعمرين القدامى؛ الفرنسية والإنجليزية بخاصة، ليس من الجاليات العربية المهاجرة وحدها، بل من شريحة من الكتاب المقيمين ما فتئت تتسع، خصوصًا في بلدان المغرب العربي وفي لبنان، وإن بدرجة أقل. منهم من داوم على النشر في فرنسا وهم قلة، ومنهم من ينشر إنتاجه في بلاده. ومن ثَمّ كانت الأسماء العربية المتداولة في الساحة العالمية منذ القرن الماضي – بدرجات من الأهمية متفاوتة – هي تلك التي تتوسل بلغة المستعمر، بدءًا بمن عاشوا الاستعمار مثل: مالك حداد وكاتب ياسين ومحمد ديب ومولود فرعون وإدريس الشرايبي وعبدالكبير الخطيبي وألبير مِمّي وسواهم، وصولًا إلى جيل الاستقلال وما بعده مثل: طاهر بن جلون وعبداللطيف اللعبي ومحمد خير الدين ورشيد ميموني ومصطفى التليلي… هؤلاء الناطقون باللغات الأجنبية هم الذين يُدرَجون عادة في قوائم الكتاب العرب، ومن النادر أن نجد في تلك القوائم كاتبًا عربيّ اللسان باستثناء نجيب محفوظ ثم علاء الأسواني وعبدالعزيز بركة ساكن في الأعوام الأخيرة.
أي أن من يريد تسجيل حضوره في الفضاء العالمي، يُفترض أن يكتب بالفرنسية أو الإنجليزية مباشرة أو أن يترجَم إلى إحدى هاتين اللغتين، ليس لكون الترجمة مفتاحًا لولوج الأسواق الفرنسية والإنجليزية فحسب، وإنما أيضًا لكونها سبيلًا لنقلها إلى اللغات الأخرى عبر العالم.
في البداية يعلق الشاعر الدكتور محمد أبو الفضل بدران، نائب رئيس جامعة جنوب الوادي في مصر، ومقرر لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، قائلًا إنه متفق تمامًا مع أبوبكر العبادي، ولاسيما وقوفه أمام هيمنة اللغة الإنجليزية، وخفوت اللغة العربية وغربتها في العالم العربي. بحيث صارت الكتابة بالإنجليزية طريقًا للاعتراف الدولي. ولعل هذا يفسر سبب لهاث الأدباء العرب نحو ترجمة أعمالهم إلى اللغات الأوروبية.
ومن الواضح أن الترجمة تخضع لمتطلبات أوروبية ثلاثة: فضائح جنسية وسياسية، وقذف في الأديان والمقدسات، وإلا فقل لي لماذا تترجم كتب “أليفة رفعت” التي لا يعرفها إلا قلة من القراء في بلدها مصر؟!
ولماذا لا نكتفي بجوائزنا العربية المرموقة كجائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة الملك عبد الله، وجائزة النيل، وجائزة الشارقة وغيرها؟
لا سيما وأن هذه الجوائز حققت قدرًا كافيًا من الموضوعية، بدلًا من الركض إثر جائزة مخترع الديناميت؟
أما الكاتبة والناقدة الدكتورة أحلام معمري، الأستاذ المحاضر بجامعة قاصدي مرباح بولاية ورقلة، فتعقب على رأي العيادي، الذي طرح مجموعه من الأسباب المهمة التي جعلت من أدبنا العربي يضمحل عالميًا، من أهمها الهيمنة الاقتصادية حتى على مستوى الأدب، ما يفسر تبعيتنا حتى على المستوى الثقافي وإلا فكيف نفسر هيمنة المناهج الغربية وتبعيتنا لها وإن كانت تشكل عائقا معرفيًا كبيرًا على خصوصية أدبنا، فأصبحت معايير النقد والكتابة الأدبية جميعها مرتبطة بما تمليه علينا ثقافة الآخر، بل وحتى الأشكال الأدبية نفسها أصبحت خاضعة لقانون العرض والطلب حسب السوق، فتراجعت القصيدة العمودية لتحل محلها قصيدة التفعيلة، فقصيدة النثر، فالومضة. وهكذا حسب مذاق الحركة الشعرية وتطورها عند الغرب، فأضحى كل تجديد في الأشكال الشعرية والنثرية يخضع لسلطة ما هو سائد عند الآخر.
فمن قال إن الشعر سيتراجع دوره عند أمة العرب الشاعرة لتحتل الرواية باب الصدارة؟
كذلك أشار “العيادي” إلى أمر مهم يتعلق بمسألة اللغة وبخاصة في الدول المستعمرة بحيث ظلت المستعمرات الكولونيالية تابعة للدول المستعمرة، ثقافيًا، ومن هنا كان التمكن من لغة الآخر والكتابة بلغته عامل قوة، أو كما عبَّر عن ذلك الكاتب الجزائري مالك حداد بأن اللغة الفرنسية غنيمة حرب، ليبلغ محمد ديب وكاتب ياسين ومالك حداد ومولود معمري هذا الأخير الذي فاز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي.
فما كان لهؤلاء المبدعين أن يبلغوا ما بلغوه إذا لم يتقنوا الكتابة باللغة الفرنسية. وهو ما جعل هذه الاسماء تعرف عالميًا قبل أن تعرف عربيًا.
ولعل هذا هو ما جعل بعض الروائيين وبخاصة مزدوجي اللغة منهم يكتبون – إلى جانب اللغة العربية باللغة الفرنسية في مرحلة متأخرة – وأتحدث هنا عن التجارب الجزائرية كمثال على ذلك؛ فواسيني الأعرج الذي حقق اسمه عربيًا ضمن مركزية المشرق العربي، ثم قام بعد ذلك بترجمة أعماله إلى الفرنسية تحديدًا، ثم إلى الإنجليزية وغيرها، بعد أن ذاع صيته عالميًا، وهو نفس ما انتهجه الكاتب والروائي الجزائري أمين زاوي.
بل إنهم اتجهوا بعد ذلك للكتابة بالفرنسية مباشرة حتى تنتشر أعمالهم عالميًا.
فما عاد الكاتب العربي – في الغالب – يكتب بدافع الكتابة الإنسانية فحسب، بل بدافع الانتشار والذيوع والجري وراء الفوز بالجوائز العالمية، وإن كان ذلك يأتي أحيانًا على حساب بعض القيم والأخلاق، بل وخيانة المبادئ.
ومن الجزائر أيضًا نتعرف على رأي الكاتب والناقد والمترجم الدكتور محمد خطَّاب، الأستاذ المحاضر بجامعة مستغانم الذي قال: يبدو أن التوصيف السابق لعالمية الأدب العربي يستند إلى وضع اقتصادي وسياسي. بينما الأدب في بعده الحقيقي يظل فضاءً حقيقيًا لما يكون أساس وجود الإنسان، وعنوان رقيه، ودليل أصالته في هذا الكون.
فالوضع الاقتصادي المشار إليه، في طرح العيادي، بالنسبة للأدبين الياباني والصيني، وأنه قد أسهم في عالمية أدبهما هو تفسير جزئي لهذه المعضلة. فمفهوم العالمية ليس واحدًا حتى في ثقافة المركز، فأي عالمية يبحث عنها الأدب العربي؟ أهي عالمية الانتشار عبر العالم؟ أم هي عالمية الترجمة كمًّا وعددًا؟ وهل هي عالمية المقروئية؟
هذه أسئلة يطرحها الكاتب الذي يكتب لأنه يحب أن يكتب، ولأنه يريد أن يكتب بغض النظر عن الترجمة والتسويق والإعلام.
يكتب لأنه معني بتجربته كإنسان وككيان في هذا الكون. ودليل ذلك ما أبدعه كُتَّاب أميركا اللاتينية في معظمهم؛ كتابة الألم البشري، والفرح الإنساني أيضًا.
إذًا فترجمة ما كتبوه ونشروه لم يكن هاجسًا أساسيًا، بل الهاجس هو توفر جوهر الكتابة التي لا تفترق عن وضع الإنسان الوجودي والإنساني في هذا الكون، ثم مسألة القيم التي بدأت تتجلى في الثقافات والصراع بينها، تأتي الكتابة لكي تنتصر لقيمة المستضعف والمظلوم والمتعب، ولذلك نجد نماذج كثيرة كتبت بلغة القوي المستعمر ولكنها لم يكن في نيتها أن تدرج ضمن الكتابة الخائنة.
لذلك لا أحد يساوم في وطنية الكُتَّاب الذين لم يكتبوا بلغتهم الأم، فكلمة الأم تحتاج لفهم أوسع.
فكرة السوق في هذا الزمن حطمت القيمة الأدبية للأدب وجعلت قيمة الكتابة متأخرة، حيث يسارع الكتاب إلى اعتماد الناشرين الأوسع نطاقًا ويميلون للجهات الأكثر شهرة، وهكذا تبدأ الكتابة الحقيقية في الانسحاب والتأخر، ونحصل على نوع من الأدب الهجين الذي يقدم صورة مشوهة عن الكتابة الحقيقية.
ونصل إلى منصور مهني، صاحب التجربة الثرية في مجال ترجمة الأدب العربي المعاصر إلى الفرنسية ليحدثنا في هذه القضية، يقول: عندما نتحدث عن محاولات انخراط الأدب العربي في الفضاء العالمي، وعن الصعوبات التي تواجهها، لا يمكننا إلا أن نتفق مع أبوبكر العيادي حين يرجع ذلك إلى الظروف السياسية والاقتصادية الداخلية للمجتمعات العربية التي جعلتها غير قادرة على الانصهار في الحداثة؛ فتصبح بذلك قضية الثقافة عامة وقضية الإبداع الأدبي وغيره قضية مجتمع بأسره لا بد له أن يتولى كل أموره بالحكمة والحكامة (أو الحوكمة) اللتين تضمنان له ما يطمح إليه من نمو وازدهار وإشعاع.
لكننا نستغرب بعض الشيء من الرأي الذي يعلل لصعوبة الرواج العالمي للأدب العربي بالمزاحمة التي يلقاها من الذين يكتبون “بلغات المستعمرين القدامى”. دعنا نؤكد على ضرورة الفصل بين القيمة الإبداعية لأدب ما وبين رواجه في صلة بعملية تجارية تنشد الربح المالي قبل كل شيء.
فبغض النظر عن اللغة الإنجليزية التي تضافرت عديد العوامل المرتبطة بالعولمة لجعلها اللغة الأكثر رواجًا في العالم، يبقى السؤال مطروحًا من حيث رواج الأدب في لغات هي ليست بالضرورة أكثر استعمالًا من غيرها. فالعربية هي رابع لغة في العالم من حيث الاستعمال، بعد الصينية والهندية، لكن رواج آدابها يأتي بعد الفرنسية مثلا، وهي اللغة التاسعة في الترتيب العالمي.
وأعتقد أن الأمر يكمن في المقام الذي وضعت فيه الدول آدابها من حيث هي عنصر اقتصادي يتطلب صناعة ومراحل تجارية مدروسة ومتكاملة، يدعمها قطاع الإعلام والاتصال بمختلف آلياته المكتوبة والرقمية والسمعية البصرية. فهو استثمار صناعي وتجاري في الثقافة أتى بفوائد جمة وملموسة للأدب المكتوب بتلك اللغات المتفوقة، لأنه دخل في المنظومة المتكاملة التي ذكرناها.
أما عندنا، يكفي أن نتوقف عند حكامة قطاع النشر والتوزيع والترويج للكتاب لنرى أننا في بعد مسافة كبيرة عن الهيكلة والسياسة المعتمدتين في بلدان اللغات التي تقدمت علينا في ذات المجال. فإما أن يكون الأدب عندنا أو لا يكون. ولكي يكون وجب أن يصبح هاجسًا عامًا، حكوميًا وشعبيًا، تضعه المؤسسات والجماعات والسلطات في مقدمة اهتماماتها وكذلك الأفراد وأصحاب رؤوس الأموال وغيرهم. والأهم في هذا التمشي أن تكون للدولة سياسة واضحة المعالم والأهداف ومنتظمة الأداء والتقييم والاستشراف، مدعومة بوعي المواطنين وانخراطهم في التمشي نفسه باعتباره السبيل الأفضل لنمو القطاع.
ولا نزال في تونس حيث يتفق الناقد بلقاسم مارس، الأستاذ المساعد بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بمدنين جامعة قابس، مع طرح أبوبكر العياديّ حول هيمنة اللّغات الأوروبّية على الفضاء الأدبيّ العالميّ، مؤكدًا رجاحته نظرًا لما نُلاحظه من هيمنة للآداب الغربيّة واحتفاء النقّاد والقرّاء بها حتى غدتْ وجهة أغلبهم ليؤكدوا هم أنفسهم أنّ الآداب الغربيّة على تعدّدها وتنوّعها قد ضمنت شيوعها عالميّا حين اعتمدت على لغتها الأم، مضيفًا أن هذا هو ما يجعل الثقافة العالميّة تحتكم هي الأخرى إلى مختلف التّحولات العالميّة حتى أنّه بإمكاننا أنْ نجزم بأنّ القوى المهيمنة على العالم هي التي تضْمن في الوقت نفسه سيطرة لغتها، وبالتالي آدابها وعلومها. ويضيف مارس بأن هذه العلوم والآداب واللّغات تنتشر بهيمنة هذه القوى وتحكّمها كقوى استعمارية في العالم. وتتقلص بتراجعها وضعفها، ممن جعل من الأدب العربيّ، على سبيل المثال، ينحصرُ وينكمشُ ولا يصل إلى المتلقي لقصور في لغته أو لعجزه عن مسايرة مختلف الآداب الأخرى.
ولعل طرح العيادي قد أتى على مختلف الحالات التي تحول دون شيوع الآداب العربية، وربط بين هيمنة الآداب العالمية وهيمنة سياسييها فلم يجانب بذلك الصواب بل طرح إشكالًا ثقافيًا قائمًا.