مايكل فاراداي.. الرجل الذي عَرِف العلم بالله!

لا يمكن أن تجد، ربما في تاريخ العلم كله، حالة أكثر دعوة للتأمل من “مايكل فاراداي”، نشأ طفلا في أسرة فقيرة بأحد أحياء لندن، كان بطيئا في تعلُّمه ولم يكمل دراسته بسبب أنه لم يتمكّن من نطق بعض الحروف بسهولة، وحتى حينما وجد ضالّته في مكتشف الصوديوم والبوتاسيوم عالِم الكيمياء الشهير وقتها “همفري ديفي”، وظهرت علامات نبوغه، كان يسافر معه كونه خادما، وعملت زوجة السيد ديفي على تذكيره بقدر انحطاط تلك الوظيفة قدر الإمكان(1).
بلا خبرة في الفيزياء أو الرياضيات، وبلا ثروة أو وظيفة في نطاق البحث العلمي، كنت لتتوقّع أنه مهما بلغ فاراداي من موهبة فإنه لا محالة سيقف عند حدود الهواية، لكنه لم يفعل. نتحدث هنا عن أحد أعظم علماء القرن التاسع عشر، أبو الكهرومغناطيسية، لا يمكن لأي طالب في مراحل التعليم المختلفة إلا أن يمر باسم هذا الرجل الذي اقترن بقوانين وكميات وابتكارات متنوعة جعلت مما نعرفه عن الفيزياء، وبالتبعية الكون كله، ما هو عليه اليوم. يكفيك أن تعرف أنه من دون إنجازات هذا الرجل لم تكن لتتمكَّن من قراءة هذا الكلام الآن.
لهذا السبب أثارت حياة فارادي انتباه الكثير من الكُتّاب، حتّى إنك ستجد قصّته في كل كتاب فيزياء قُدِّم للعامة تقريبا، لكن الأكثر إثارة للانتباه في كل حياة هذا الرجل كانت -بلا شك- سبع سنوات، بين عمر الثالثة عشرة والعشرين، قضاها في ورشة لتجليد الكتب بعد أن ترك المدرسة، عادة لا تجد مَن يُسهب في التحدُّث عنها، هناك تعلَّم فاراداي بشكل ذاتي.
في أثناء عمله بالورشة، كان أكثر الكتب تأثيرا في فاراداي هو “تحسين العقل”(2) للمؤلف وعالم اللاهوت والشاعر والفيلسوف التجريبي وكاتب الترانيم الشهير في الأوساط المسيحية “إسحاق واتس”، في هذا الكتاب يُقدِّم واتس نصائح مهمة جدا لآلية التعلُّم ويعرض أفضل السُّبُل للاستفادة من المحاضرات والقراءة والمحادثات وكيفية كتابة الملاحظات، في الواقع فإن نصائح واتس كانت السبب في انتقال فاراداي من مهنة تجليد الكتب إلى العمل مع هامفري ديفي.
لكن فاراداي لم يجد هذا الكتاب في ورشة التجليد، بل كان كتابه. كان فاراداي مسيحيا متدينا، لكنه اتبع طائفة تُدعى “الغلاسية”(3)، وقد تأسَّست نحو عام 1730 على يد قس مسيحي يُدعى “جون غلاس”، الذي بنى أفكاره على أساس يقول إن ملكوت المسيح روحاني، بالتالي فإن الكنيسة المسيحية لا يمكن بناؤها أو دعمها بأسلحة سياسية أو تحرُّكات على أي أساس آخر سوى كلمة المسيح وروحه.
من هنا اهتم غلاس بالتطبيق الحرفي الملتزم والمتفاني لكلمات الكتاب المقدس، وحينما خُلِع بسبب معتقداته من كنيسة اسكتلندا أسَّس كنيسته الخاصة وانتشرت أفكاره بعد ذلك في جميع أنحاء أوروبا، في بريطانيا نشرها “روبرت ساندمان” وسُمِّيَ أتباع الحركة بـ “الساندمانيين”، ومنهم كانت أسرة فاراداي، الذي تربى على تلك التعاليم.
لفهم مدى عمق تلك الفكرة وتأثيرها على فاراداي، دعنا نتأمل اقتباسا شهيرا يقول فاراداي فيه: “كتاب الطبيعة الذي يجب أن نقرأه مكتوبٌ بأصابع الله”، يستخدم فاراداي هنا مجاز الكتابين(4)، الذي يقول إن الله كشف عن نفسه من خلال “كتاب الطبيعة” بقوانينه المنظمة، و”الكتاب المقدس” في سرده التاريخي واعتباره للمعجزات.
لكن مجاز الكتابين عادة ما يُستخدم تدليلا على وجود الله، أما فاراداي فقد استخدمه للبحث عن الحقائق بين جبال الآراء والبدهيات والحس المشترك، فتصوَّر أن الحقائق العلمية هي كلمات الله في كتاب الطبيعة، حتى إنه قال ذات مرة إن “الحقائق لا تخذلنا أبدا، ودليلها صحيح دائما”، وكانت وظيفته هي استخدام التجريب للوصول إلى تلك الحقائق، والتجريب في مدرسة فاراداي هو أهم شيء في العلم، وكان يهتم بالإنتاج النظري لكنه دائما ما كان يميز بدقة ووضوح بين الحقائق التجريبية والتفسيرات النظرية.
وعلى الخُطى نفسها، انطلق فاراداي لقوانين الطبيعة. فطالما أن الحقائق هي لغة الطبيعة، فإن قوانين الطبيعة كانت القواعد النحوية الثابتة لهذه اللغة، والتي تربط الكلمات معا في جمل مفيدة، وكتب فاراداي ذات مرة قائلا: “تعامل الله في خلقه المادي بقوانينه”، اعتقد فاراداي أن خلق الله للكون تضمَّن خلق القوانين التي تعمل معا في تناغم للحفاظ على توازن مكوناته، وبالتالي فإنها قوانين ثابتة لا تتغير.
في كتابه “مايكل فاراداي.. الساندماني والعالم”، يقول جورج كانتور*، أستاذ تاريخ العلم بجامعة ليدز البريطانية، إن مبادئ مثل “تناغم الطبيعة” و”البساطة على تعقُّدها الظاهر” و”وحدة الطبيعة” لم تكن محطات النهاية في طريق فاراداي، أي إنه لم يتوصل إليها عبر عمله في نطاق البحث العلمي، بل العكس، كانت النقاط التي انطلق منها ناحية البحث العلمي، وبالتالي فإن جهود فاراداي لتوحيد الكهرباء والمغناطيسية والضوء كانت متسقة مع قناعاته الميتافيزيقية.
كون فاراداي إذن هو منظومة دقيقة مُصمَّمة وفق خطة إلهية استخدمت القوانين لتنظيمه، تلك القوانين الأصلية لا تزال سارية إلى الآن، بسبب كمال خطة الله، وهي أيضا قوانين بسيطة على تعقُّد الطبيعة، ومُتسقة مع بعضها بعضا لأنها تخدم هدفا واحد، وتصلح لكل زمان ومكان لأنها كونية بطبيعتها، ويمكن للعلماء رصد الطبيعة وجمع الحقائق بحكمة عن طريق فهم العدد القليل من القوانين التي تحكم الظواهر الكونية، هذا هو الكون الذي دخل فاراداي به إلى نطاق العلم وليس ما خرج به.
قد يرى البعض تناقضا في تلك الأفكار مع المنهجية العلمية التي قد تتطلَّب خلوا تاما من الأفكار السابقة قبل الدخول إلى منطقة البحث عن الحقائق، لكن ذلك غير واقعي، عادة ما نكون مُحمَّلين بالافتراضات السابقة أيًّا كان مصدرها، وقد تؤكد هذه الأفكار نتائجنا العلمية أو قد تناقضها، وكما يُوضِّح كارل بوبر(6)، فيلسوف العلم الأشهر، فإن موضوعية التقدُّم العلمي و عقلانيته لا ترجعان إلى الموضوعية الشخصية وعقلانية العالِم نفسه، بل قد يُكتشف البرهان الرياضي أو النظريات العلمية بمحاولات لا واعية، مسترشدة بإلهام ذي طبيعة جمالية (أو دينية مثلا) بدلا من التفكير العقلاني، لكن بوبر -مثله مثل فاراداي وإن اختلفا جذريا في فلسفة العلم التي يتبناها كل منهما- اتفقا أن هذا الكشف يجب أن يخضع لمجهر التمحيص العقلاني.
ويعتقد إيان باربور(8)، الفيزيائي الأميركي والمتخصص في نطاق العلاقة بين العلم والدين، أن الدين يمكن أن يدفع إلى ما هو أعمق من ذلك، فباعتبار أن خليقة الله بطبعها محدود القدرة مقارنة بقدرات الله الكلية، فإن قوانين الطبيعة لا يمكن التوصل لها تلقائيا، بل يجب بذل بعض الجهد في تفسيرها، الأمر الذي يمكن أن يحث على ضرورة إجراء تحقيق تجريبي أو العمل على بناء نظريات، خاصة أن الحصول على المعرفة الدينية نفسها قد يتطلب بعضا من المنطق أو خلق النماذج الفكرية أو الاستعارات، إلخ.
وعلى الرغم من التأييد الذي يجده هذا النموذج القائل بوجود نوع من الحوار أو التكامل بين العلم والدين، خاصة من رجال الدين، فإنه ليس الأكثر شيوعا في نطاق الفلسفة الذي يدرس العلم والدين (حيث يميل الفلاسفة بشكل أكبر إلى فرضية “عدم التداخل”)، وذلك لسببين رئيسيين، أولهما أنه في مرحلة ما سيتسبّب هذا الحوار في تناقض حرج بين العلم والدين، الأمر الذي بدوره سيقود إلى السبب الثاني، وهو أن يتحوَّل العلم إلى ساحة تحاول إثبات أو إنكار وجود الله.
في حالة فاراداي، فإن أفكاره السابقة المستمدة من عقيدته قادت -بجانب النتائج المفيدة- إلى مشكلات علمية كبيرة(9) في فكره، على سبيل المثال فإنه كان قد عارض المدرسة الذرية بناء على الأفكار نفسها، كذلك كانت له تحفُّظات على تعريف “الطاقة” وتحديدها، الأمر الذي منع من تقدُّمه في فهمها، منبع هذه التحفظات له علاقة بأنه اعتقد بـ “كون مليء بالطاقة”، وأن الله وحده على علم بماهيتها، انطلق فاراداي من تلك النقطة لرفض الفلسفة الميكانيكية من الأساس. من جانب آخر فإنك لن تجد الكثير من التعليقات لفاراداي حول قضية خلق الكون، وكان تديّنه حرفيا لا يُفسِّر عدد أيام خلق الكون بطريقة تأويلية.
لكن الأكثر دعوة للتأمل في هذا السياق كان أن العلماء الذين قرّروا خوض العالمين معا، عالم الدين وعالم العلم، وأنجزوا فيهما معا، كانوا حريصين كل الحرص على الفصل بين النطاقين، ولم ينزلقوا إلى بؤرة الزج بالدين في الصراعات العلمية، أو الزج بالعلم في الصراعات الدينية، ربما لسبب بسيط وهو أنهم يعرفون أن قناعات الدين إذا كانت تقود إلى الأفكار العلمية فإنها لا تفعل ذلك بشكل حَرفي، أي إنها تقبع في خلفية العالِم كونها نموذجا إرشاديا، لا حقائق علمية مسجلة في كتابه المقدس، أيًّا كان.
فاراداي كان واحدا من هؤلاء، كذلك جورج لوميتر، عالم الفلك والقس الكاثوليكي البلجيكي الذي توصل إلى أن الكون يتمدد وقاده ذلك إلى نموذج الانفجار العظيم، بل ربما لا تعرف أن ثابت هابل الآن بات يُعرَف باسم “ثابت لوميتر هابل” تعديلا من قِبل علماء الاتحاد الفلكي الدولي في العام 2018، ليوفوا الرجل حقه في هذا الثابت الأشهر في علم الكونيات.
لوميتر -على الرغم من أنه عمل رجلَ دين- ربما كان أكثر حرصا من فاراداي نفسه في تلك النقطة(10) الخاصة بالفصل بين العلم والدين، كثيرا ما أشار إلى أن “الإنجيل ليس كتاب علوم، طالما أدركت ذلك فإنك ستتخلَّص من فكرة التناقض بين العلم والدين”، وأشار إلى هذا التناغم بين عمله بالعلم والدين ذات مرة قائلا: “كنت مهتما بالوصول إلى الحقيقة من وجهة نظر الخلاص الديني تماما كما كنت مهتما بالوصول إليها من وجهة نظر اليقين العلمي. بدا لي أن هناك طريقين إلى الحقيقة، وقرّرت أن أتبع كلاهما“.