كيف تتصالح مع واقع لا يخضع لرغباتك؟
ليس هناك من لا يتمنى أن تصحّ توقعاته، أو أن يستجيب الواقع للرغبات. يحدث الافتراق، حين تأتي الوقائع مجافية للتوقعات المشوّقة والمأمولة.
إذ يحدث أن يصرّ المرء على أنّ عدم تصديق الواقع لتوقعاته هو نوع من المؤثرات في مسرح الظل الذي ندور فيه ليس إلا. وما عليه، وعلينا سوى الثبات، والمكابرة حتى انقطاع النفس. ولا بأس حينها من تأوّيل الهزيمة على أنها نصر، والنصر على أنه هزيمة، ما دام الأمر من أوله حكاية زوايا، وشطحات.
والافتراض من وراء كل هذا أنّ منطق اشتغال الأمور وتبدّيها وتواريها هو نفسه، في الحلم أو في اليقظة، لا فرق.
هذا ما يحصل في السياسة، في الاقتصاد، في الحرب. هذا ما يزيد الطين بلّة على الدوام. هذا ما يجعل الموقف من الكارثة مضطرباً وأكثر. هذا ما يجعل الوعي بالكارثة، في مكابرته عليها، لا يقلّ كارثيّة عنها.
وهذا ما يجعلنا لا نميّز بين «العاديّ» و«الكارثيّ».
وعليه يتمازج خطابان. كل واحد منهما هو كناية عن كلمة واحدة تتردد إلى ما لا نهاية.
الخطاب الأول ممغوط من مفردة واحدة هي «العجز». العجز والسلام. العجز حاف. العجز ككلمة فقدت شعريتها منذ وقت كثير. بل منذ البداية. العجز ككلمة مضلّلة. مبطلة للنهم. تفترض بأنه إما أن يكون الواقع مشرّعة أزراره ومحركاته تكبس عليها وتديرها كيفما تشاء، أو أنك محاصر وسط عجز لا يرحم. المفردة الثانية هي «الإرادة».
وهذه تلاك على الدوام كما لو أنها صنو «افتح يا سمسم» و«آبراكادابرا».
تداهمك الوقائع التكنولوجية فتهرب منها إلى وثن «الإرادة». يغلظ عليك ميزان القوى، تتراكم أمامك تبعات أخطائك، تنسى أصلاً ما هي أهدافك المتوخاة في هذه المرحلة، تهرب من كل هذا إلى حيث تبجيل الإرادة والتغني بها. إرادة إنشاد. إرادة إنشاد ذابلة. شجى حزين تعبث به وتريد تسويقه على أنه أهزوجة احتفالية.
تصادر، باسم أهمية العامل النفسي المعنوي في المعارك على أي اعتبار آخر. تنهر، باسم «الإرادة الفولاذية» العصب الخامل كما الحذر. تعجب لعدم استجابة العصب. تكتب قصيدة في العجز حينها. تردد لفظة «عجز» من أولها إلى آخرها. تجرّب حظّك مع العصب مرة أخرى. تأمره، لا يسمع. يتحرّك حين لا تطلب منه. تلحق به فيرقد في كهفه من جديد.
هذا التصور الإرادوي للعالم لا يختلف في شيء عن التصور المتمحور حول كلمة «عجز».
لكن الواقع لا يختصر بثنائية عجز وإرادة. وقلما تكون المسائل محصورة في هذين البعدين. الخطاب الإرادوي الفاقع اليوم، شأنه شأن الخطاب العجزوي المتكدر. كلاهما ينظر إلى العالم على أنه نتيجة للمناجاة الداخلية بين «أنا» ما وبين «عصب» ما. تريد هذه الأنا المبهمة تحريك «العصب».
إن أفلحت بذلك تملكت العالم، على ما ترى. وإن لم يحرّك العصب ساكناً، لم تر إلى نفسها وإلى العالم غير تراجيع صدى لكلمة «عجز» وهي من الكلمات التي من المستطاع بالفعل طرحها جانباً من القاموس، لا ضرر كبير يتوقع من غيابها.
ليس هناك من هو عاجز بشكل مطلق. إلا ذاك الذي يشترط على الواقع إما أن يستجيب لهواه، وإما أن يتعرض لحمم «حرده» من هذا الواقع وسأمه من فجاجته ولا معناه.
وقد يحصل أن يندفع النفر من بعد طول مكابرة، إلى العدول عن دوامة «عجز وإرادة» هذه. فيندفع في اتجاه طرح السؤال عن الحظّ القليل بل المنعدم لتوقعاته مثلاً، أين أصابت، وأين كادت أن تصيب، وأين سخر منها الواقع بشكل نافر، وما إذا كان مرد ذلك سوء الطالع، أو الوقوع في كمين طارئ، أو إلى مجرد هفوة في الحساب.
وقد تحدّث المرء نفسه أو يلفت نظره الأقربون بأن الأمور تستلزم حكّاً لفروة الرأس أكثر جدّة وشدّة. بما يقود إلى إعمال مسافة بين التوقع المبني على الرغبة وبين التوقع المبني على المقايسة والمفاصلة والاختبار واحتساب الأوزان والأحجام.
المسافة كذلك بين التوقعات وبين ما إليه صائرة الأمور. باعتبار أن الطفرة في توقع شيء ما من قبل كل اللاعبين يجعل الإفلات من هذا المآل المتوقع أكثر رجحاناً. هكذا يحصل التمييز.
بين الطريقة التي يصف بها هذا النفر ما هو كائن أمامه وحوله وحياله، على ما يراه هو ويستشعر به، وبين الطريقة التي يصف بها النفر نفسه كيف يريد للأشياء من حوله أن تكون، وأيّ مقام يبتغي حجزه أو تكريسه لذاته ضمن هذا اللفيف. ضمن هذا الكل المبعثر.
فالواقع لا يَرِد بالانسياب العذب، بل كثيراً ما يأتي كصدمة. مسلسل صدمات. بلادة حيناً، وصدمة حيناً آخر. الواقع لا يكتفي بوتيرة واحدة.
الصدمة مردّها إلى كون الواقع لا يستجيب للمشتهيات. هذا مع أن الواقع، من حيث هو واقع، مراوغ، مخاتل. له نزواته. ليس الواقع واقعياً لكنه يشتغل لسحره هو، وليس لسحرك أنت.
قد يستجيب لتوقعاتك العشوائية ثلاث مرات متتاليات مثلاً، ثم لا يعود يكترث البتة لما اعتقدتَ أنه جهاز تحكّم في حركة الواقع، وتسيير له إلى غاية مقصودة.
الصدمة يمكن أن تنمي لديك الرغبة في التصالح مع الواقع. أو يمكن أن تأتي الصدمة شديدة، وجهاز استقبالك هشّ أو متصدّع، فتفصلك عن الواقع بعد أكثر. فتزين لك بأن لك واقعا، ولسواك واقعا آخر. تسجن نفسك بنفسك.
عندما سيتبين لك أن الواقع ليس بالضرورة ما كنت ترغب فيه لنفسك أن تكون عليه، أو للواقع ككل أن يكونه، حينها، قد تصطنع لنفسك نزعة «رواقية محلية». هي نزعة تحاول الإنصات للواقع. لا بتثاؤب ولا بتنمرد. لا بغيظ ولا بخشوع. تفاوضه، تتجاذبه، ترغي معه وتزبد. تثرثر معه، لكن المغبة أنه قد يحصل لك أن تثرثر باسمه. تبدأ بأن ما من حاجز يُفترض بيني وبينك يا «سي الواقع» وتضيف أنه قد صعب عليك الأمر مطولاً لكنك الآن أدركت أن رغباتك وتوقعاتك ليست بالضرورة هي وقائعك ونزواتك. وقد يحدث شيئاً بعد شيء الشطط انطلاقاً من هذا الموقف السليم. فتأخذك الرغبة لمناجاة الواقع باعتبار التواطؤ الدفين والكوني هذا. فتقول له شيئاً من قبيل «أني عقدت العزم بأن لا أشعر يا ذا الواقع إلا بما تشعر به أنت، فبدلاً من أن اشترط عليك بأن يكون حلمي حلمك، وتوقعي عين ما هو حاصل معك، سألعبها بالمقلوب، وأكون حلمك، الذي يتدثّر ويرتوي في كنفك». وهذا مطبّ عويص.
فلئن كانت الرغبة في الاقتراب من الواقع، والتصالح مع حقيقة عدم مطابقته المسبقة مع شهواتك وأحلامك، هي رغبة مثمرة، معرفياً وعملياً، فبوسعها أن تنقلب إلى شيء ضار ومضجر حين تعود غير راغب بأن يكون لك من رغبة ومن شوق غير ما يجيزه الواقع هذا في حيّزه «المألوف» أي الواقع كما يؤطّره لك الآخرون.
أن تدرك صدمة تلو صدمة، بأن الواقع لا يمكن أن ينحصر تطوره لا بما تتمناه أنت ولا مما تخشاه، فليس معنى ذلك أنّه عليك مراجعة كل رغباتك لتطابق «حركة الواقع» أو الواقع كما يداهم عينيك مستجمعاً من الشرر في عيون الآخرين. أن تحتفظ برغباتك «على مهبّ» الواقع، أو بالرغم منه، فهذا أكثر من ضروري، ويمكن أن يلائم شروطك للمثابرة في الوجود، على مسرح الواقع.
بعد ثمانية أشهر على حرب الإبادة، ربّما كانت الحاجة إلى تنسّم شيء ما، من خارج «توتولوجيا العجز والإرادة». إدراك هذه الحاجة هو الشرط الأولي، لاستعادة القدرة، على النظر والعمل معاً، وعلى كافة المستويات.
الواقع لا تحركه رغباتك وتوقعاتك مهما كانت مشروعة ومدروسة. والرغبة في مصادقة الواقع بوسعها أن تزيدك اقتراباً منه. لكن الاقتراب منه فوق اللزوم يا محلاها المكابرة عليه.
المسافة بينك وبين الواقع ينبغي مع ذلك أن لا تضيع. أنت، كإنسان، ضمن الواقع وخارجه في آن. لكن في الحالتين تراك لا تسيّر الواقع، لا أنت ولا كلّ الآخرين، لا على هواهم ولا على هواك. ليس لأنك عاجز. بل لأن لك ضمن هذا الواقع حيّزا. يضيق أو يتسع. ولك خارجه، على الأقل، الوهم بأنك خارجه. بأنك لن تضيع وسط الكثرة، ومع تعاقب الأيام.