كيف أظهرت جائحة كورونا هشاشة منجزات الحداثة الغربية؟
بسام ناصر
لم يكن يدور بخلد أحد قبل شهور أن ما يحدث في العالم الآن سيحدث بالفعل بعد جائحة كورونا، فها هي دول العالم المتقدمة صناعيا، بكل ما تمتلكه من أدوات ومظاهر المدنية الحديثة، وما أنجزته في كل مجالات التقدم الصناعي، تصاب بالشلل التام، ولا تجد سبيلا لمواجهة هذا الخطر الداهم إلا بتعطيل غالب تلك المظاهر، وإيقاف غالب مرافق الحياة العامة.
فمن كان يتخيل أن الدول الديمقراطية التي ناضلت قرونا متتابعة لترسيخ أنماط حياتية، تتربع الحريات والرفاهية على رأس أولوياتها، تضطر مرغمة إلى فرض الحجر المنزلي على مواطنيها، وتحظر حركتهم، وهو ما أظهر عجزهم وضعفهم، وجعلهم يتقبلون مرغمين كل الممارسات السلطوية الرامية إلى حظر تجوالهم، والحجر عليهم في منازلهم.
أين الوعود التي أطلقها الإنسان الغربي المعظم لاكتشافاته واختراعاته، معلنا عن أعظم طموحاته وتطلعاته، بأنه سيكون سيد الطبيعة في القرن الواحد والعشرين، المالك لها والمسيطرعليها، تتويجا لمسيرته العلمية الحافلة باكتشاف كثير من القوانين المسيرة للطبيعة والحاكمة لحركتها؟
ووفقا للأكاديمي المغربي، الباحث في الفلسفة والفكر المعاصر، الدكتور فؤاد هرّاجة فإن “فيروس كورونا الذي هدد العالم بالموت، وحاصر البشرية في بيوتها وأرغم الدول الكبرى ومنها أمريكا أن تنحني إذلالا أمام هذا المجهري المرعب، أظهر عجز الحداثة المدنية، وما فتىء يأكل منسأتها حتى خرَّت أمام أنظار العالم مشلولة الإرادة”.
وأضاف: “في خضم الاستكبار الغربي، بهيمنته النيوليبرالية المتطرفة، وتحكمه الاقتصادي والسياسي والعسكري، ظهر فجأة هذا الفيروس الذي يبلغ حجمه 150 نانومتر ليهدد الكرة أرضية، الذي شل حركة العالم، وأكدَّ بما لا يدع مجالا للشك عدم جدوى الأقمار الاصطناعية، والصواريخ، والأسلحة النووية، والطائرات النفاثة، والبنوك والبورصات، والشركات العابرة للقارات”.
وتابع هرّاجة حديثه بالقول: “أمام هذا اليأس والعجز المفجع والمفاجيء، وبعدما أفرط الإنسان الغربي في الأمن الجسدي، ووضع كل يقينه في العلم والعقل والتقنية، ها هو يعود اليوم إلى الوسطية والاعتدال ليهتم بأمنه الروحي على غرار حرصه على أمنه الجسدي، عاد الناس للبحث عن الطمأنينة في المساجد والكنائس والأديرة، عادوا يستمطرون رحمة السماء، يرجون رب السماء أن يرفع عنهم الوباء”.
وذكر من مظاهر ذلك الرجوع أن “الأذان عاد ليرفع من جديد بعدما مُنع في عدة دول غربية، وها هي المساجد والجمعيات الإسلامية الخيرية تعود لتعمل بعد حظرها في أمريكا بدعوى الإرهاب، وها هي وسائل الإعلام الغربية تُذكر بتعاليم الرسول عليه الصلاة والسلام في الطهارة والحجر الصحي”.
وأردف “ها هام القساوسة يجوبون شوارع إيطاليا وإسبانيا يعقمونها بترانيمهم وأدعيتهم، وها هم عامة الناس ومن داخل حجرهم الصحي يبتهلون ويهللون ويكبرون، ولسان حالهم يقول لا ملجأ من الله إلا إليه بعدما خذلتهم وخدعتهم الحداثة بوعودها الغرورة، لقد نسف فيروس كورونا عِجْل الحداثة الذي ظلت البشرية عاكفة عليه” متمنيا أن “تعود البشرية إلى رشدها بعد انكشاف الغمة”.
من جهته رأى الأكاديمي والسياسي العراقي، الدكتور زياد الصميدعي أن “أسطورة التقدم التكنولوجي تحطمت أمام فيروس ضعيف لا يكاد يُرى، ما يعني أن العالم مهما أوتي من تقدم علمي وتقني، يقف عاجزا أمام القدرة الإلهية المطلقة”.
وواصل حديثه بالقول: “في المحن والابتلاءات تستشعر الشعوب مدى افتقارها وحاجتها إلى الخالق العظيم، القادر على كشف الغمة، ورفع البلاء والوباء، وهذا ما رأينا في سلوكيات عامة الشعوب المختلفة، مسلمين وغير مسلمين”.
وفي الإطار ذاته قال الباحث في اللاهوت المسيحي، الدكتور فيليب مدانات “أبلغ رسالة لجائحة كورونا، تقول لهذا الإنسان المغرور باكتشافاته واختراعاته، والذي كان يطمح بعدته التقنية والعلمية المتطورة، لكي يكون سيدا للطبيعة في القرن الواحد والعشرين أن اعقل واسلك سبيل الرشاد، وهي ذات الرسالة التي يحملها للحكومات بأن تكف عن الظلم وامتهان كرامة الإنسان”.
وردا على سؤال عن تجليات هشاشة منجزات المدنية الغربية الحديثة بسبب جائحة كورونا، لفت مدانات إلى أن دول العالم المتقدمة صناعيا، تقف عاجزة عن مواجهة هذا الفيروس، ما دفعها إلى تعطيل الحياة العامة بغالب مناحيها، وإلزام الناس بالحجر المنزلي”، متسائلا: “اين تقنياتها وأين أسلحتها الفتاكة، وأين اختراعاتها، وأين كل مظاهر مدنيتها الحديثة التي عطلتها بنفسها خوفا وهلعا من هذا الفيروس”؟
وتابع: “على الناس وهم يواجهون هذا الوباء الفتاك أن يصغوا إلى السماء وهي تتكلم مع الأرض، وأن ينتبهوا إلى أن الرب يتكلم مع البشر، ليلتقطوا القصد الإلهي مما يجري بأن الإنسان المعاصر طغى كثيرا، والحكومات كذلك، فيأتي هذا الوباء العالمي الذي عادة ما يرتبط في الكتاب المقدس بتأديب إلهي لعموم البشر بما فيهم ولاة أمورهم” على حد قوله.
بدوره وصف الأكاديمي الأردني، المهتم بالدراسات الناقدة للحداثة الغربية، الدكتور معتز أبو قاسم “عجز الحداثة الغربية عن تحقيق وعودها التي طالما وعدت بها، بأنه عجز أخلاقي في الأساس”.
وقال : “وعدتنا الحداثة الغربية بالقضاء على الخوف والضعف والفقر، وبشَّرت بأنها ستخضع الأشياء للإرادة والعقلانية، مستبعدة حظَّ البلاء والابتلاء والقضاء والقدر، وأرادت أن تزيل عنه كل مظاهر الخوف من الكوارث الطبيعية، وحماية جسده من الأمراض والأوبئة”.
وختم كلامه بالتأكيد على أن الحداثة الغربية بكل حمولتها التقنية والعلمية والصناعية تقف اليوم عاجزة أمام جائحة كورونا، وظهرت هشاشة أنظمتها الصحية في معالجة تبعات هذه الجائحة، وتخلخلت اقتصادياتها ونظامها المالي، وهو ما سيظهر بشكل أوضح وأفظع في الأيام المقبلة.