قدمك مقابل حياتك.. الوصفة المضمونة لنجاح أفلام الرعب
نبيل عبد الكريم
أنت مخيّر بين أن تموت أو تعيش من دون إحدى قدميك. أنت لست في حالة متقدمة من مرض السكّري تستدعي أن يبتر الأطباء قدمك، ولست مصاباً بالتهاب شديد في قدمك؛ فتختار أن تستغني عنها خشية أن يتفشّى المرض في أعضاء أخرى من جسدك.
قدمك سليمة تماماً، وأنت في تمام صحتك البدنية، ولكن يجب أن تتخلّى عن قدمك مكرهاً، ليس هذا فحسب، بل يجب أن تبترها بنفسك بواسطة منشار يدوي. وإن رفضتَ القيام بالفعل السادي تجاه نفسك، فستموت لأن حياتك في يد شرير عبقري يمتلك سلطة القضاء والقدر.
فيلم (saw) يلعب على وَتَريْ الغرائز والرغبات البدائية الكامنة في أعماق النفس البشرية. وهو فيلم رعب شهير تصدر، بأجزائه الثمانية، قوائم هذا النوع من الأفلام خلال العشرية الأولى من القرن الحالي.
فيلماً تلو الآخر، استطاعت سلسلة (saw) أن تبقي المُشاهد مشدوداً إلى متابعة شخصيات تكافح للخلاص من الفخاخ الرهيبة التي وجدت نفسها واقعة فيها، وتتخبّط بين الخيارات المحدودة المفروضة عليها، وكل خيار منها أسوأ من الآخر.
الشخصيات حبيسة أماكن ضيقة مهجورة، حمام عام قذر بمغاسل يعلوها العفن، ومواسير صدئة، ومرايا ملطخة بالأوساخ. أوغرفة مغلقة بباب حديدي، نوافذها مسدودة بعوارض خشبية. الشخصيات تتصارع في فضاء مغلق، وكلما اشتد الصراع فيما بينها ضاق الفضاء، وقلت احتمالات النجاة، وازدادت وتيرة التوتر والعنف.
صوت خشن آمر مسيطر يوجهها من خلال رسائل صوتية مسجلة، ويخاطب كل شخصية باسمها، ويشعرها بأنه عليم بتفاصيل حياتها الماضية المشينة وأسرارها الخبيثة، ويقدم لها بدائل للنجاة من الموت، لكنها بدائل رهيبة تتضمن إيذاء نفسها أو إيذاء الشخصيات التي تشاركها الأسر. وتعزيزاً لحضوره وسيطرته يعلق صاحب الصوت كاميرا في أعلى الجدار لتُشعر الشخصيات بأنها تحت سلطة قوة غامضة قاهرة، تراقب حركاتها وسكناتها كأنها عين الاله. ثم يطل عليها في الوقت الذي يختاره عبر شاشة تلفزيونية من خلف قناع مخيف ليصدر أحكامه على سلوكها الخارجي، ونواياها الباطنية.
وتلعب ساعات العد التنازلي دورا محوريا في مشاهد الفيلم، فاختيار البدائل وتنفيذ الأوامر محكوم بزمن محدد، وأي تردد أو تأخر في التنفيذ يعني نفاد فرص النجاة، الأمر الذي يدخل الشخصيات في سباق محموم مع الزمن.
وللمفاتيح والأصفاد دور محوري آخر في الفيلم، فالأولى تعطي الأمل، والثانية تقيّده، وبين الأمل والقيود تصارع الشخصيات خوفها من الموت، وتمتحن قدرتها على احتمال الألم، وتتصارع مع غيرها على امتلاك مفتاح النجاة.
ينسف فيلم (saw) مبدأ التعاون بين البشر، وهو المبدأ الأساس الذي قامت عليه الحضارة الإنسانية بحسب سيجموند فرويد (في كتابه، قلق في الحضارة). ويبث الفيلم في نفوس المشاهدين شعورا بالقلق الشديد تجاه نجاعة العمل الجماعي في مواجهة التحديات والأخطار المحيقة بالإنسان، ويقلقل طمأنينة جمهور المشاهدين إلى صلابة القيم الاجتماعية الراسخة في الحضارة المعاصرة، ويذكرهم السلوك الفردي الغريزي لشخصيات الفيلم بالأصل البربري لبني الإنسان، وبأن القيم الاجتماعية ما هي إلا ثوب يلبسونه في أوقات الرخاء والأمان، ويخلعونه في لحظات الشدة والخطر.
ويحرص الفيلم على تعرية شخصياته من ثوبها الأخلاقي ليكشف عن النزعة الفردية التي لم تنجح مقتضيات الحضارة المعاصرة في ترويضها، والمناقضة لأي انتماء للجماعة. وحين ينزع الفيلم الغطاء الأخلاقي عن شخصياته يقطع صلة التضامن بينها وبين جمهور المشاهدين القائمة على الأخوّة الإنسانية، ويحرر المشاهدين من الشعور بالذنب تجاهها، ويستبدله بالشعور اللاوعي بالتلذذ بأشكال العذاب التي يتففن الفيلم في تعريضها لها.
ويسعفنا التحليل الفرويدي في فهم آلية استجابة الإنسان لمشاهدة العذاب الواقع على غيره من البشر؛ فالحضارة المعاصرة القائمة على النظام الاجتماعي والقانوني الصارم تصنع لدى الإنسان ضميراً أخلاقياً متشدداً ومتيقظاً لأخطاء ومخالفات غيره من البشر للنظام العام، وعلى الرغم من أن النفس البشرية مجبولة على الهروب من الألم بكل أشكاله، وعلى النفور من الإحساس به واقعاً عليها، أو على غيرها، إلا أنها تعجز عن مقاومة التلذذ بمشاهدة القصاص المؤلم الواقع على الأشخاص الذين تثبت مخالفتهم للنظام الاجتماعي.
تشترك أفلام الرعب في قدرتها على أثارة إعصاب المشاهد وحبس أنفاسه وبثّ الخوف والتوتر والقلق في نفسه. وتستعين بالشياطين والجن والأرواح الشريرة والكائنات الفضائية والحيوانات المفترسة والحشرات القاتلة، والمخلوقات الأسطورية، والأموات الأحياء (الزومبي)، لتحقق التأثير المطلوب في نفوس المشاهدين.
ومن بين كل ما يثير الرعب، تختار بعض الأفلام شخصية الإنسان السادي، الذي يبدو في مظهره الخارجي إنساناً عادياً، وربما لطيفاً، لكنه ينطوي على نفس مريضة، وتعتمل في عقله أفكار جنونية تزيّن له تقمّص دور الإله، وتبرر له أن يُثيب ويعاقب، وأن يحكم ويعفو. وغالباً ما يعزز هذا الشخص نزعته السادية بأفكار دينية منتزعة من سياقاتها، تدور حول إنقاذ البشرية من آثامها وشرورها، أو فلسفات مجتزأة تدور حول الحرية والمسؤولية، والأخلاق الإنسانية المثالية، وإحقاق العدالة في الأرض.
ومن أبرز الأفلام التي قدمت شخصية السادي، فيلم (the silence of the lambs)،1991. بطولة جودي فوستر، وأنتوني هوبكنز. وإخراج جوناثان ديمي. وفيلم (se7en) 1995. بطولة براد بيت، وكيفين سبيسي، ومورغان فريمان. وإخراج ديفيد فيشر.
وتتشابه شخصية السادي في الفلمين المذكورين، إضافة إلى فيلم (saw)، بذكائها الجهنمي، وثقتها الكبيرة بنفسها، ومعرفتها الواسعة بخفايا النفس البشرية ومكامن الضعف الإنساني، ونزعتها الكلبية المتجردة من أي تعاطف مع ضحاياها، وثقافتها الواسعة التي تمكنها من امتلاك خطاب فلسفي تبرر من خلاله أفعالها الإجرامية تجاه ضحاياها، بوصفها أفعال قصاص لا أفعال إجرام.
ففي فيلم (se7en) يسابق المحققان الجنائيان الزمن لوقف السادي من استكمال سلسلة الجرائم البشعة التي بدأها ضد ضحاياه السبعة، ولم يكن اختياره لهم عشوائياً، وإنما بناء على فكرة تخليص البشرية من الخطايا السبع وهي، الشره، والجشع، والخمول، والغضب، والغرور، والشهوة، والحسد. وهي طبائع بشرية خطأتها نصوص أدبية كلاسيكية لكتّاب منهم دانتي، وملتون، والماركيز دي ساد.
وفي فيلم (the silence of the lambs)، يبني السادي نظريته في القتل على فكرة احتقار الإنسان الضعيف الإرادة، المحدود الذكاء، المنقاد لأطماعه الوضيعة. وبرغم إحساسه العنصري المَرَضي بالتفوق على البشر، إلا أن السادي يقع أسيراً لشخصية المحققة الجنائية التي تتولى التحقيق معه، فتتهاوى ثقته بنفسه أمام ذكائها ونقاء سريرتها.
كل هذه الصفات التي تجتمع في شخصية السادي، إضافة إلى قدرتها على تحدي القوانين الاجتماعية، والكشف عن هشاشة منظومة العدالة، والتلاعب بها، تمنح شخصية السادي صورة كاريزمية آسرة، تؤهلها في عين المشاهد للعب دور الإله المنتقم، ويرفعها من درك الخارجة عن القانون البشري العاجز والبائس، إلى مصاف المنفذة للقانون الإلهي الفاعل والعادل.
تعد أفلام الرعب وصفة مضمونة الربح من الناحية الانتاجية؛ أولاً: سيناريو مبتكر، لا يعدو أن يكون تنويعاً على الثيمات الأساسية لهذا النوع من السينما، وكلها ثيمات تقلق الإنسان منذ عصور ما قبل الحضارة، ولم تنجح الحضارة في طمأنة الإنسان نحوها؛ ثيمة الموت الخلود، وثيمة الخير والشر، وثيمة العدالة والقصاص، وثيمة الحرية والمسؤولية، وثيمة الفرد والجماعة.
ثانياً: عناصر إخراجية متقنة، مواقع تصوير، وديكورات، وأزياء وأقنعة ومكياجات، ومؤثرات بصرية وسمعية، والكثير الكثير من الغموض والإثارة والتشويق. وثالثاً: ميزانية إنتاج منخفضة تضمن ألا تخسر الجهة المنتجة ما لم تحقق أرباحاً مضاعفة.