فورين بوليسي: أمريكا ستدفع ثمن إخفاقاتها لسنوات مقبلة
قالت مجلة فورين بوليسي، إن السنوات الخمس والثلاثين الماضية، لم يصدق أحد فيها التحذيرات من التراجع
الوشيك للولايات المتحدة، بحسب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، ستفين
والت. وسلسلة الإخفاقات التي قامت بها سببت جروحا لها ستعاني منها سنوات قادمة،
وخاصة إساءات ترامب.
وأشارت المجلة إلى ما قاله المؤلف بول كنيدي في كتابه
“صعود وهبوط القوى العظمى”، من أن أمريكا قد تأخذ نفس مسار بريطانيا في
الهبوط، لافتة إلى توقعات علماء بتحول أمريكا إلى “بلد عادي” واتجاهها
لعالم ما بعد الهيمنة، ولكن فاجأهم أن الاتحاد السوفييتي هو الذي انهار وخرجت
أمريكا كقوة عظمى وحيدة متبقية. وتبين أن تلك هي الظروف المثالية لمزيج خطير من
الغطرسة والاستهتار.
وأضافت: “مع حلول منتصف تسعينات القرن الماضي، وجدت
أمريكا نفسها في وضع صدارة لم يحصل في التاريخ الحديث. فبقوتها الاقتصادية
والعسكرية والقوة الناعمة مجتمعة قزمت كل الآخرين وقدم علماء مثل ويليام وهلفورث
وستيفين بروكس طرحا بأن فترة القطب الواحد قد تطول إلى نفس الفترة أو أطول من فترة
القطبين التي سبقتها”.
وتابعت المجلة: “ولكن ما فشل المتفائلون بتوقعه
للأسف، هو سلسلة من الجروح المتسببة ذاتيا والتي كانت ستعاني منها أمريكا في
السنوات اللاحقة. وأخطاء تسارعت تحت حكم دونالد ترامب. وبالذات إساءة تعامل ترامب الفاضح مع جائحة كورونا والذي سيولد آثارا
مضاعفة للبلد على المدى الطويل وستسرع من الانحدار الأمريكي، وحتى لو هزم ترامب في
الانتخابات في تشرين ثاني/ نوفمبر وفعلت إدارة جون بايدن كل شيء بشكل صحيح، فإن
تداعيات حكم ترامب المليء بالأخطاء ستبقى معنا لسنوات طويلة”.
وقالت: “قبل ترامب وقعت أخطاء القطب الواحد تحت
ثلاثة عناوين. الأول تبني استراتيجية الهيمنة الليبرالية والتي سعت لنشر
الديمقراطية والأسواق والقيم الليبرالية الأخرى على أوسع مستوى، ولجلب العالم
بكامله إلى النظام الليبرالي الذي تم تصميمه وقادته أمريكا. هذه الاستراتيجية
الطموحة أثارت ردة فعل قوية من عدة جهات وأدت إلى حروب مكلفة ضيعت ترليونات
الدولارات وقوضت قطاعات أساسية في الاقتصاد الأمريكي”.
وأشارت المجلة، إلى أن الخطأ الآخر كان السماح للمؤسسات
العامة أن تتدهور بحرمانها من الموارد ثم تحميلها اللوم لكل المشاكل. وقام القادة
الجمهوريون بالدفع باتجاه تخفيض الضرائب دون إعارة أي اهتمام للتداعيات المالية،
وأصبحت مصلحة الضرائب تفتقر إلى التمويل الكافي لتلاحق المتهربين من الضرائب
والمزورين.
ومثل طبقة اليونكر (الإقطاعيين) في إقليم بروسيا في
ألمانيا والأرستقراطيين الفرنسيين قبل الثورة وجد الأثرياء الأمريكيون، بمن فيهم
ترامب، طرقا جديدة غير محصورة في تجنب دفع المستحقات الضريبية دون خشية من
العقوبة. وبدلا من إنشاء وتمويل مؤسسات عامة قوية ومتخصصة ومحترمة – لديها الإمكانيات
الإدارية التي تنفع في حالة وقوع جائحة والموجودة في بلدان أخرى – قرر
الأمريكيون أنهم ليسوا بحاجة لها.
وثالث خطأ كان تحويل السياسة الحزبية إلى سلاح والذي بدأ
بثورة نيوت غنغريتش في الكونغرس. وكما وثق ذلك جوليان زيلزر في كتاب جديد ولكن
مثير للقلق، فإن قرار غينغريتش الإطاحة برئيس مجلس النواب جيم رايت بدأ عملية حولت
السياسة الأمريكية إلى رياضة دم، حيث كان الفوز بالسلطة والحفاظ عليها أهم من خدمة
المصلحة العامة.
ولسوء الحظ فإن هذه التوجهات الثلاثة تتضارب مع بعضها،
فتغيير العالم ليشبه أمريكا مهمة هائلة، وإن كان جادا في الموضوع يحتاج إلى دولة
قوية ممولة بشكل جيد وعالية الكفاءة للقيام بها. وإدارة العالم لا تحتاج إلى قوة عسكرية فقط ولكن تحتاج إلى سلك دبلوماسي
واسع للتعامل مع التداعيات في الخارج وجيش عظيم من خبراء التنمية المدربين بشكل
جيد والعديد من برامج شبكات الأمان في الوطن للتعامل مع تداعيات العولمة
الاقتصادية المزعزعة للاقتصاد.
وقالت المجلة: “من هذه الناحية فإن استراتيجية
الهيمنة الليبرالية، متضاربة مع المطالب التي لا تنتهي لتخفيض الضرائب وما يصاحبها
من تقليص للدولة. وكان المدافعون عن الهيمنة الليبرالية يتجاوزون هذه المسألة
بافتراضهم أن مد التاريخ يجري لصالحهم وأن إنشاء نظام ليبرالي عالمي سيكون أمرا
سهلا نسبيا”.
وتابعت: “إدارة العالم تقتضي تضحيات كبيرة والقيام
بها بشكل فعال، يتطلب إجماعا قويا من الحزبين ودعما عاما قويا. ولا حاجة للقول إن
الأجواء السامة للحزبية حيث يقوم السياسيون الجدد ببناء مستقبلهم السياسي من خلال
استعراض فضائح ملفقة للخصوم، هو العكس تماما للوحدة الوطنية. وهذا الاختناق
اللامتناهي في الديمقراطية الأمريكية لا يشجع المجتمعات الأخرى لتبني هذا النموذج”.
ورأت المجلة أن “تداعيات هذه الأخطاء الثلاثة هي
التي أوجدت الخليط السام الذي سمح لدجال نرجسي غير مؤهل، مثل ترامب، بأن يصل لسدة
الحكم. ومنذ ذلك الحين استطاع أن يجعل سمعة أمريكا في العالم في الحضيض، وفشل في
حرب التجارة مع الصين وجعل إيران أقرب للحصول على قنبلة نووية ومدح عددا من
الدكتاتوريين القتلة (بعضهم عدواني بشكل علني لأمريكا)”.
وقالت إن إنجازه الوحيد في السياسة الخارجية لحد الآن
“هو جعل بريطانيا تقرر استثناء هواوي من شبكتها الرقمية للجيل الخامس (5 جي)،
ولكن ذلك ليس كثيرا من الإنجازات لأربع سنوات في الرئاسة تقريبا. وعدا عن تعيين
العديد من القضاة المحافظين، وكان إنجاز ترامب الأكبر مع حلول 2020 هو أنه لم يخرب
التعافي الاقتصادي الذي أورثه إياه باراك أوباما”.
أما “التعامل الكارثي” مع الجائحة، فقد تم
توثيقه في أماكن أخرى، بحسب المجلة، ولا حاجة لإعادة القصة المأساوية مرة ثانية.
وبدلا من ذلك تبرز آثار على المدى الطويل للمكانة العالمية لأمريكا.
وأشارت أولا، إلى تمني ترامب ذهاب المشكلة (مع التعامل
العاجز لإدارته) والذي شوه سمعة أمريكا المترنحة كمجتمع يعرف كيف يتعامل مع الأمور
بفعالية. وعندما تمنع الدول في أنحاء العالم الأمريكان من دخولها بسبب مرض كورونا
بينما ينظرون بصدمة وشفقة لما حصل في أمريكا. فمثلا الناس من رواندا والجزائر والأروغواي يستطيعون زيارة أوروبا هذا
الصيف والأمريكي لا يستطيع ذلك.
وقالت، إن الأمر الثاني، سيترك الركود الاقتصادي الذي
ستخلفه الجائحة جروحا عميقة في الاقتصاد الأمريكي وستزيد الأضرار كلما طالت
الأزمة. فلن تعود الوظائف التي فقدت بشكل تلقائي وسيستمر الاستغناء عن موظفين حتى
تتم السيطرة على الفيروس. وقدم الاحتياطي الفيدرالي والكونغرس أموالا للطوارئ
للتخفيف من الصدمة ولكن هذه الإجراءات تضخمت بشكل كبير مسببة عجزا ضخما في
الميزانية الفيدرالية، وكلما استمرت الأزمة كلما تراكمت الديون.
ومع أن الجائحة أثرت على اقتصاد كل البلدان في العالم
إلا أن بلدانا أخرى سيطرت على التفشي وبدأت تفتح مرة ثانية بشكل آمن وستعاني من
تداعيات أقصر أمدا. فمع استطالة الفترة التي تستمر فيها أمريكا بالإغلاق وغير ذلك
من الإجراءات ضمن ترامب بأن التعافي التالي عندما يحدث أخيرا سيكون بطيئا وأقل قوة.
ثالثا، فاقم الإغلاق العنفَ العائلي ضد الزوجات والأطفال
وجعل من الأكثر صعوبة اكتشافه في الحالتين. فعادة ما يلاحظ المدرسون في المدارس علامات العنف على الأطفال ولكن فرص
ذلك أقل عندما لا يكون الأطفال موجودين في فصولهم المدرسية. وكنتيجة ستعاني أمريكا
من مستوى عال من المشاكل الصحية العقلية في المستقبل وهو أمر كارثي للضحايا ومضعف
لقوة أمريكا.
وقالت المجلة إن الأثر الرابع يكمن في إبقاء المدارس
مغلقة للسيطرة على الفيروس، إلا أن ذلك سيؤثر على التحصيل العلمي للأطفال
الأمريكان، ويجعلهم حتى متخلفين أكثر عن نظرائهم الأجانب من ناحية الإنجاز العلمي.
صحيح أن الدراسة تأثرت في كل مكان بسبب الفيروس ولكن سيكون الضرر أكثر في الدول
التي لم تتعامل معه بشكل جيد.
خامسا، سيتأثر التعليم العالي بشكل كبير. فقد كانت كليات
وجامعات أمريكا هي الأفضل، وعلى مدى عقود كانت هي المحرك للإبداع وهو ما يعود
بدوره بالفائدة على الاقتصاد الأمريكي. فقد عانت هذه المؤسسات من الإغلاق وخاصة
خسارتها للطلاب الأجانب الذين كانوا مصدر دخل لهذه الجامعات ويسهمون في إبداعها،
ولكن التعامل السيء مع الجائحة سيجعل الطلاب الأجانب الذين كانوا يأتون للدراسة في
أمريكا في الماضي يبحثون عن فرص الدراسة الجامعية في بلد آخر.
وكانت أمريكا لفترة طويلة مستفيدة مما يسمى “كسب
العقول” وهم الأجانب المبدعون الذين يأتون لأمريكا للدراسة ثم يقررون البقاء
والعمل فيها حيث تستفيد الشركات الأمريكية من إبداعهم. ويتوقع أن تتضاءل هذه
المنفعة في المستقبل. وكلما طالت الفترة التي تتخلف فيها أمريكا عن العالم في
التعامل مع كوفيد-19، وكلما زاد الضرر الذي ستتعرض له في هذا المجال.
ورأت المجلة أن الجائحة لم توقف النساء عن الحمل ولكن
الكثير منهن الآن يفعلن ذلك في ظروف اقتصادية غامضة وضغط نفسي بسبب الفيروس. وهناك
أبحاث كثيرة تشير إلى أن كل أشكال الضغط النفسي للأم الحامل لها تداعيات على صحة
الطفل الجسدية وإمكاناته الإدراكية ونضجه العاطفي. وصحيح أن الآثار السلبية
للفيروس موجودة في كل بلد تفشى فيها الفيروس ولكن ستكون أكثر في البلدان التي لا
تزال لم تسيطر على الفيروس.
ولا يزال لدى أمريكا عدد من الفوائد المهمة مقارنة مع القوى
الكبرى الأخرى، بما في ذلك موارد طبيعية وفيرة، واقتصاد لا يزال فيه إبداع ومناخ
معتدل وموقع جيوسياسي موات. وتواجه البلد في نفس الوقت عددا من المنافسين الخطيرين
ولكن العقود الأخيرة أثبتت أن الأمريكان يبقون عدو أنفسهم الأسوأ. ولم يتوجه ترامب
متعمدا وبوعي نحو تدمير أمريكا ونسف فرصه في الانتخاب ثانية ولكنه لم يستطع
الامتناع عن ذلك.