خروج جيرمي كوربين: الوداع لصديق فلسطين
في الرابع من نيسان/إبريل، أنهى جريمي كوربين فترة زعامته لحزب العمال البريطاني. لم يكن مفيدا أن يهيمن وباء كوفيد 19 بظلاله على الحدث، ولكن مع ذلك مضى خروجه بلا احتفاء ولا رثاء.
كما وصف شكسبير اغتيال يوليوس قيصر بقوله: “والآن ينطرح هناك، ولا يوجد شديد فقر يظهر له الإجلال.” كانت نهاية مهينة بعد خمس سنوات من الشيطنة غير المبررة. شكل أعداؤه فيلقا، وكثيرون شعروا بالحرية لانتقاده بأبشع الأساليب.
خذ على سبيل المثال جيريمي كلاركسون، مقدم برنامج “ذي غراند تور”، الذي هزأ بكوربين لأنه لا يعرف كيف يحلق ولا كيف يحصل لنفسه على نظارات تناسب وجهه. وعندما خسر حزب العمال انتخابات 2019، شن بيرز مورغان هجوما على كوربين ناعتا إياه بالخاسر، قائلا: “لقد خسرت المعركة، فأمسك عن الكلام.”
اغتيال سياسي
تلقى كوربين خلال سنوات زعامته للحزب كمّا هائلا من التحقير والامتهان، بحيث تم تدمير سمعته تماما وبشكل منتظم. وفي النهاية، بات من غير الممكن تصور أن مثل هذا الفشل يمكن أن يتأهل صاحبه لتزعم أي حزب سياسي. وكما في حالة قيصر، ما تعرض له كوربين كان اغتيالا سياسيا تاما، بحيث لم يعد ثمة أمل في التعافي من بعده.
أما بالنسبة للفلسطينيين فكانت الحكاية مختلفة، إذ إن مغادرته من المسرح السياسي الرئيسي لا تقل عن المأساة، فهي تعني خسارة إنسان صاحب مبدأ – الزعيم البريطاني الأول، وربما الأخير، صاحب الضمير الذي يقر بالغدر التاريخي الذي مارسته بريطانيا ضد الشعب الفلسطيني، محملا إياها المسؤولية الأخلاقية عن إصلاح الخلل.
لا يمكن نسيان مشهد القاعة المحتشدة بالمندوبين الملوحين بالعلم الفلسطيني في مؤتمر حزب العمال في عام 2017، ولا خطاب كوربين الذي تعهد فيه بعزمه على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وإنهاء الاضطهاد الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني.
لو قدر لكوربين أن يصبح رئيس وزراء بريطانيا لسجل سابقة في التاريخ السياسي، لكونه أول زعيم سياسي غربي يتصدر لنصرة القضية الفلسطينية بشكل علني ودون أدنى مواربة. ولربما نجم عن أجندته الهادفة للتصدي للاحتلال الإسرائيلي غير القانوني، ومواجهة القهر الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين، تخجيل الدول الأوروبية التي ماتزال صامتة إزاء ذلك وحملها على تبني أجندته نفسها. كان ذلك سيدخل السعادة إلى قلوب شعب ما فتئت معاناته تعامل بتجاهل تام لصالح الأولويات الإسرائيلية.
دعاية معاداة السامية
ما كان لنا أن نسعد طويلا، إذ إن دعم كوربين لفلسطين وللفقراء والمظلومين في كل مكان، كان سببا رئيسيا في التدخل لوضع حد له ولليسار داخل حزب العمال.
على الرغم من الكثير الذي قيل عن دور المؤسسة الرأسمالية في إسقاط كوربين بسبب توجهاته الاشتراكية في الاقتصاد، إلا أن اللوبي المؤيد لإسرائيل هو الذي وجه له الضربة القاضية. لا بد أن مجرد فكرة أن يرأس حكومة بريطانيا يوما رجل يدافع عن القضية الفلسطينية، مثل لهم نوعا من الكابوس.
تحققت غاية الحملات المتواصلة التي شنها هذا اللوبي منذ عام 2016، وذلك بفضل تضافر جهود حركة العمال اليهودية الصهيونية، ومجلس المندوبين البريطانيين اليهود الموالي لإسرائيل وأصدقاء إسرائيل داخل حزب العمال بتنسيق على الأغلب من السفارة الإسرائيلية في لندن. والنتيجة أن كوربين تحول بسبب هذه الدعاية من ناشط حقوقي شريف ضد العنصرية، قضى حياته يناضل من أجل المستضعفين في الأرض إلى رجل عنصري ومعاد للسامية. بل بات أمرا شائعا الآن تقبل فكرة أن حزبه تستشري في أوصاله معاداة السامية، وهي تهمة سيجد الحزب صعوبة بالغة في التخلص منها.
وثمة دروس في ذلك يمكن أن يستفيد منها الزعيم الجديد لحزب العمال وفريقه، ولكن المؤشرات الأولى غير مشجعة، إذ يبدو أنهم آثروا اتخاذ سبيل الاسترضاء الذي تمت تجربته وأثبت فشله.
ففي شهر كانون الثاني/يناير، قبل أن يتم انتخاب كير ستارمر أو نائبه، أعلن المرشحون لمنصبي زعيم حزب العمال ونائبه دون أدنى تردد، عن تبنيهم لوثيقة من عشر صفحات حول معاداة السامية أصدرها مجلس المندوبين، تلزم زعيم الحزب بتنفيذ ما ورد فيها وتحاسبه على ذلك، ومن أبرز معالمها؛ الضبابية في التمييز بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، والسماح في خطوة غير مسبوقة بالتدخل الخارجي في التدريب داخل حزب العمال وإجراءات التأديب المتبعة فيه.
مواقف متعارضة
بل ذهب ستارمر إلى أبعد من ذلك حين جعل معاداة السامية قضية أساسية سيتبناها في أثناء زعامته لحزب العمال، بل وندد مرارا وتكرارا بسجل الحزب المزعوم في معاداة السامية. وفي اليوم نفسه الذي تولى فيه زعامة الحزب، أرسل خطابا اعتذاريا بكل وضاعة لمجلس المندوبين، يعدهم فيه باجتثاث معاداة السامية من حزب العمال، الأمر الذي يجعل المرء يتساءل ما إذا كان بهذه التصرفات يأمل في كسب اللوبي لصالحه. لو كان كذلك، فلسوف يكتشف كما حصل مع كوربين أن مثل هذا الاسترضاء الحماسي، لا يحصنه ضد المزيد من المطالبات فيما لو تجاوز ما هو مرسوم له.
ماذا عن الفلسطينيين ما بعد كوربين؟ من المعروف أن ستارمر عضو في مجموعة أصدقاء فلسطين داخل حزب العمال ويوافق على حل الدولتين، ولذلك فهو يعارض خطة ترامب للسلام، وعين ليزا ناندي، المناصرة بقوة للحقوق الفلسطينية، في منصب وزير خارجية الظل. في الوقت نفسه، يصف نفسه بأنه نصير للصهيونية “دون قيد أو شرط”، ويقول إنه يؤمن بدولة إسرائيل.
هذه المواقف متعارضة: أن يدعم المرء الحقوق الفلسطينية، التي تتضمن حق تقرير المصير وحق العودة، يعني أن ينكر شرعية إسرائيل كدولة حصرية لليهود في فلسطين، والعكس صحيح. لا يمكن لمواقف ستارمر المرتبكة أن تؤتي أكلا.
لم يكن ممكنا في جنوب أفريقيا أيام الفصل العنصري (الأبارتيد) أن يدعم المرء الفصل العنصري وحقوق السود في الوقت نفسه، ولم يتوقف الصراع هناك إلا بإبطال الأبارتيد. والشيء نفسه ينطبق على الصهيونية في فلسطين. إن إنهاء الصهيونية هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام الدائم.
وهذه أفكار لا يستريح لها ستارمر ولا غيره من السياسيين الغربيين، فهم يفضلون التشبث بأسطورة الدولة الفلسطينية التي تعيش إلى جانب إسرائيل، وذلك تهربا من مواجهة الوضع الحقيقي. ومن الأفضل بالنسبة لهم التخلص من رجال مثل كوربين، لأن مثله من شأنه أن يفضح الواقع وأن يقود المسيرة نحو مستقبل أكثر عدلا للشعوب التي طالما تعرضت للاضطهاد.
لربما قال شكسبير في ذلك: “هنا كان كوربين! متى سيأتي آخر مثله”.