حبوب البن الساحرة.. مزيج من التجارة والسياسة والغنى والمؤامرة
تعدّ القهوة المشروب الأكثر شعبية في العالم، ويستهلك يوميا نحو ملياري كوب قهوة في شتى أنحاء العالم، ويتناولها الناس في المنازل، وفي المقاهي التقليدية، وفي الفنادق والمطاعم، كما يرتشفونها في القطارات والطائرات، وقد أصبح احتساء القهوة ظاهرة تترافق مع الحداثة. وربما كان الطبيب والفيلسوف الفارسي أبو بكر محمد بن زكريا الرازي (854-925م) من أوائل من كتبوا عن القهوة.
وفي كتابه “حبوب البن الساحرة: التاريخ المختصر للقهوة” الصادر حديثا بنسخته العربية -عن الدار العربية للعلوم ناشرون- يعرض الكاتب الأسكتلندي غوردون كير التاريخ المختصر للقهوة الممتلئ بالأساطير والخرافات والأماكن والشخصيات المثيرة وغريبة الأطوار التي ساعدت على جعل القهوة عنصرا أساسيا في حياتنا اليومية، كما يبحث الكتاب في أصول القهوة في إثيوبيا واليمن، وانتشارها في الشرق الأوسط قبل أن يجلبها الرحالة والتجار وينشروها في أوروبا.
صبي إثيوبيا
ويذكر الكاتب أن أول دليل مكتوب أشار إلى القهوة كان عام 1454م، ويبين أن أحد تلامذة الصوفي الكبير الذي استوطن مدينة المخا أبو الحسن الشاذلي اليمني (1196-1258م)، عثر على القهوة في “أوساب” (تدعى الآن وصاب) في شبه الجزيرة العربية.
ويعتقد غوردون كير أن مفتي عدن جمال الدين الضبحاني (القرن الـ15) تعرف أولا إلى هذا الشراب في أثناء ارتحاله إلى الحبشة، واستخدمه في ما بعد عندما أصابه المرض، ولاحظ أن هذا الشراب منحه الطاقة وجعله مستيقظا، ويفصل غوردون كير في إقبال الدراويش على استخدامه معتقدين أنه سيمنحهم الطاقة لقضاء الليل في الصلاة وممارسة الشعائر الدينية الأخرى، وهم متيقظون ومنفتحو الذهن.
ويعود الكاتب إلى الحديث عن بدايات اكتشاف نبات البن قائلا إن راعي ماعز شابا يدعى خالدي لاحظ في أحد الأيام أن الماعز التي كانت ترعى كالمعتاد في السابق، أخذت تقفز بنشاط وحيوية، ونسب خالدي هذه البهجة والحيوية المفرطة إلى تناولها حبوب إحدى النباتات، وتبين له في ما بعد أنها نبات البن. ويضيف غوردون كير أنه صادف مرور راهب بالمكان وقد فاجأته الحيوانات تقفز بمرح، فأخبره خالدي باكتشافه الثمين، ويؤكد أنه ما كان من الراهب إلا أن أدرك أن هذه الثمرة ستتيح له التغلب على نعاسه أثناء أدائه الطقوس الكنسية، فأصبح الراعي أسعد راع في الجزيرة العربية، بحسب الكتاب.
ملوك وسلاطين ومقاه عابقة بالدخان
ويذكر الكاتب أن البن انتقل في نهاية القرن الـ15 من اليمن إلى مكة المكرمة إذ استخدمه الدراويش، وبحلول عام 1510م، كان الدراويش في القاهرة يحتسون القهوة ليبقوا مستيقظين، وكانت تقدم لهم في إبريق كبير من الخزف الأحمر، وهم يرددون ابتهالاتهم، أما أهل مكة فكانوا يحتسونها من أجل المتعة وهم يلعبون أو عندما يناقشون القضايا السياسية، بحسب الكاتب.
ويلفت كير إلى أن شعبية القهوة ازدادت في القرن الـ16، عندما ظهر أشخاص دانوا الذين يستمتعون بارتياد المقاهي ونظروا إليهم باحتقار. ويذكر المؤلف أن خاير بك المملوكي (1446-1522م) حظر احتساء هذا المشروب وأبلغ السلطان في القاهرة بإغلاق جميع المقاهي في مكة لكن السلطان العثماني سليم الأول (1520-1566م) أمر بإلغاء هذا القرار.
ويقول كير إن معارضة استهلاك القهوة تجلّت من جديد عام 1534م عن طريق أحد خطباء المساجد في القاهرة، إذ هاجم جماعة من المتدينين المقاهي وأحرقوها. ويبين المؤلف أن القهوة دخلت تركيا عام 1517م لكن السلطان مراد الأول (1574-1595م) أعلن أن القهوة صنفت مشروبا محرما كالنبيذ.
ويشير الكاتب إلى أن الصدر الأعظم محمد باشا الكوبريلّي (1580-1661م) عدّ المقاهي أرضا خصبة لإثارة الفتنة، ففرض عقوبات قاسية على من يخالف قراره ويرتاد المقاهي.
ويذكر غوردون كير أن زوجة الحاكم شاه عباس الأول (1571-1629م) في إيران بُهرت بتجمع الناس في المقهى الرئيس في أصفهان لمناقشة الشؤون السياسية وسائر الأمور المهمة، لذلك كلفت مسؤولا دينيا أن يحضر الاجتماعات في المقهى لتنوير محتسي القهوة. ويضيف كير أن ذلك أصبح عادة متبعة في جميع المقاهي للسيطرة عليها، فحال دون تحولها إلى بؤر للفتنة والاضطرابات.
ملتقى للمثقفين ورجال الدين
ويواصل الكاتب الحديث عن مقاهي الشرق، موضحا أن عام 1414م كان مرحلة انتقال القهوة إلى المدن الكبرى في بغداد ودمشق وبيروت والقاهرة. ويفصل غوردون كير في ارتباط الكتب والصحف ارتباطا وثيقا بالمقاهي، إذ أدّت الصحف دورا في نمو المقاهي.
ويشير المؤلف إلى أن المقهى مثل مكانا للأخبار والاجتماعات، فالمقاهي البيروتية أيام الستينيات من القرن الماضي أصبحت ملتقى الصحفيين والمثقفين والمفكرين والسياسيين، سواء أكانوا من المقيمين أو الهاربين من بلدانهم؛ ففي المساء كانوا يطلعون على أخبار الغد بحكم اجتماع عدد من رؤساء تحرير الصحف في تلك المقاهي. وفي مقاهي دمشق كان هناك “حكواتي” يروي القصص في ساعة معينة، أما في مصر فكان هناك مقاه لها دور بارز وتاريخي وأشهرها مقهى “الفيشاوي” الذي افتتح في بداية عام 1797م وكان من أبرز روّاده روائي نوبل نجيب محفوظ، وتحول إلى منتدى لرجال الدين، ومكان لاجتماع أبرز المناهضين للوجود البريطاني في مصر. ويذكر أن أول مقهى افتتح في العراق كان “خان جغان” عام 1590م، في عهد الوالي العثماني جغالة زاده سنان باشا، والي بغداد (1586-1590م) كما كان لمقهى الزهاوي في العراق دور بارز في التخطيط لثورة العشرين ضد الإنكليز.
ويقول الكاتب إن القهوة عندما وصلت إلى روما أحدثت ضجة بين القساوسة الذين عرضوا الأمر على البابا كليمنت الثامن (1535-1605م) زاعمين أن القهوة من اختراع الشيطان، ويؤكد أن كليمنت بعد أن أقرّ برائحتها الزكية، قرر أن يتذوق قليلا منها، وبعد أن ارتشف رشفة، صرخ قائلا “يا إلهي! شراب هذا الشيطان لذيذ جدا إلى درجة أنه سيكون من المؤسف السماح للكفار حصرا باستخدامه، وعلينا أن نخدع الشيطان بتعميده، وجعله مشروبا مسيحيا حقا”.
تجار وثوريون ومصرفيون
ويقول الكاتب إن العواصم الأوروبية عرفت في القرن الـ17 مقاهيها الأولى متأخرة نحو قرن عن ولايات الإمبراطورية العثمانية، وأكثر من قرن ونصف القرن عن مقاهي الحجاز ودمشق والقاهرة.
لهذا -يضيف الكاتب- فإن القهوة عندما بلغت أوروبا وأميركا أصبحت المقاهي في لندن والمستعمرات الأميركية أماكن نشطة. ويبين المؤلف كيف أُسست شركة “لويدز أوف لندن” (Lloyd’s of London) للتأمين في مقهى إدوارد لويدز، وانطلقت فكرة سوق لندن للتبادل في مقهى جوناثان، وكيف أُسس “بنك أوف نيويورك” (Bank of New York) وهو أول مؤسسة مالية في المدينة في مقهى مير شانتس. وفي كتابه يؤكد كير أن المقاهي لم تقتصر على هذه النشاطات فقط كما كانت أيضا مكانا للنميمة وتدبير المكائد للبلاط الملكي، وكذلك كانت مهدا للأحداث المهمة.
ففي أميركا كانت المقاهي في القرن الـ18 بؤرا للمعارضة، وتعدّ حانة غرين دراغون في يونيون ستريت ببوسطن مقرّ الثورة الأول، حيث التقى الجنرالات الذين كانوا يتوقعون طرد البريطانيين من المستعمرات الـ13. ويضيف كير أن بينيتو موسوليني حاكم إيطاليا ما بين (1922-1943م) حاول إبرام صفقات تجارية مع البلدان المنتجة للبن، إذ عرض الأسلحة والمعدات العسكرية، ومن بينها الطائرات والغواصات مقابل حبوب البن.
ويقول الكاتب إن الرجال في فرنسا الذين خططوا للثورة الفرنسية تداولوا وجهات نظرهم، وهم يحتسون فناجين القهوة في مقهى فون بباريس. ويضيف المؤلف أن مقاهي بالي رويال أصبحت مقرًّا للثوار الذين واجهوا الملك لويس السادس عشر (1774-1792م).
ويرى الكاتب أن المقاهي كانت ولاتزال أماكن يرتادها المثقفون، ويذكر أن أدباء المدرسة الانطباعية في باريس اجتمعوا في المقاهي واشتكوا انخفاض مبيعات أعمالهم، وتذمروا من استخفاف النقاد بفنهم، كما اجتمع الأدباء في المقاهي واستمتعوا بأجوائها، وهم يتلذذون بمذاق هذا الشراب الداكن.
إلا أن للقهوة أيضا تاريخا مظلما -حسب المؤلف- إذ يؤكد أنه لا ينبغي إغفال العبودية والاستغلال اللذين صنعا ثروات الكثيرين، وأن القوى الاستعمارية الأوروبية استخدمت جهود العبيد الذين جلبوا من أفريقيا من أجل نقل نبات البن إلى مستعمراتها لتوسيع انتشار زراعته.
قبعة نابليون ثمن لفنجان من القهوة
ويذكر غوردون كير أن كاتب عصر التنوير والفيلسوف الشهير فولتير (1694-1778م) كان يشرب يوميا 40 فنجانا من القهوة المغطاة بالشوكولاتة في مقهى فرانسوا بروكوب، وأن الفيلسوف والكاتب جان جاك روسو (1712-1772م) كان من رواد مقهى بروكوب. ويبين كير أنه في أثناء الثورة الفرنسية، عرضت القبعة الفريجية للمرة الأولى في مقهى بروكوب، وهي الغطاء المخروطي الناعم ذو الرأس المنحى الذي أصبح رمزا للحرية.
ويوضح المؤلف أن نابليون بونابرت عندما كان ضابط مدفعية كان يتردد إلى مقهى بروكوب، وكان يلعب الشطرنج غالبا على إحدى طاولاته، ويؤكد أن نابليون ترك قبعته ذات مرة مقابل فاتورة قهوة غير مدفوعة.
وأشارالكاتب إلى أن أبرز الشخصيات السياسية والأدبية الأوروبية كانوا يترددون إلى مقهى بروكوب مثل لافونتين، وفولتير، وبنيامين فرانكلين، وروبسبير، وبلزاك، وفيكتور هوغو. ويرد في الكتاب أن كاتب رأس المال والبيان الشيوعي كارل ماركس (1818-1883م) التقى زميله الشيوعي فريدريك إنجلز (1820-1895م)، في مقهى دو لا رغانس.
ويشدد غوردون كير في كتابه على تطور ظاهرة المقاهي ونمو شعبيتها في القرن الـ21، إذ لم يعد المقهى في الدول العربية والأوروبية مجرد مكان لارتشاف فنجان قهوة، بل أصبح أرضا لصناعة الحدث والمسرح والثقافة والفن.