الوجود الإسلامي في الأندلس.. استعمار أم ثورة حضارية؟
ثمة في الغرب عقدة شديدة من الدراسات والأبحاث التي
تفك شفرة بعض الحقائق التاريخية وتنسف الأساطير التي حاولت أن تصوغ عقيلة ومزاج
الرأي العام الغربي حول الإسلام ودوره في أوروبا، أو حول بعض الحقائق التي تتصل
بمحرقة اليهود في العهد النازي.
يثير الأمر حساسية شديدة، حين يتم اقتحام حقل البحث التاريخي، وحينما يتزود الباحث
بصناعة بحثية ثقيلة وقدرة نقدية كبيرة تسعفه في محاورة الوثائق والمؤلفات
والمراسلات والتوثيقات حول حقبة تاريخية معينة.
تابع العالم كيف تلقت فرنسا وغيرها من دول أوروبا كتاب المفكر الفرنسي روجيه
غارودي حول الأساطير المؤسسة للسياسة الصهيونية، وكيف تواطأت دور نشر كثيرة على
عدم نشر كتابه بفعل تأثير اللوبي الصهيوني على حركية الطبع والنشر في فرنسا،
وتخويف مطابع ودور نشر أخرى من مغبة مخالفة المزاج النفسي السائد أو التشكيك في
القناعات التي تسهر السياسات على تثبيتها بقانون القوة لا بقانون البحث العلمي،
وظهرت الصورة بأبشع أشكالها مع كتاب لمؤرخ إسباني أكبر ذنبه أنه حاول أن يسلط
الضوء على لحظة تاريخية يكتنفها كثير من الغموض في إسبانيا، تتعلق بحدود دور
الإسلام والمسلمين زمن الفتح الإسلامي، وهل يتعلق الأمر باستعمار وغزو همجي كما
ترسخ في الروايات التاريخية الرسمية الإسبانية التي دعمتها الروح الكلاسيكية
اليمينية المحافظة، أم يتعلق الأمر بحضارة دخلت إلى الأندلس، وأحدثت ثورة سلمية
تركت تجلياتها العلمية والثقافية والجمالية والعمرانية والحضارية في أرض كانت
غارقة في ظلام العصور الوسطى؟
إغناسيو أولاغوي، ليس صحفيا ولا كاتبا عاديا، وإنما
هو مؤرخ مشهور ومشهود له بالتبرز العلمي، ويمتلك صناعة علمية تاريخية ثقيلة، وله
قدرة عالية على مخاطبة النصوص التاريخية والوثائق وكل ما يحتاجه المؤرخ للتحقيق في
حقبة تاريخية، ومحاولة كتابة سردية جديدة تستنطق الوثائق، حتى ولو خالفت اللائق
سياسيا أو المفروض بمنطق القوة والتحكم من لدن السياسات الرسمية المسكونة بروح
العداء التاريخي للإسلام ودوره في أوروبا.
محاولة علمية جادة قام بها المؤرخ، وانتهى بعد عناء جمع الوثائق والمراسلات
والمؤلفات والروايات التاريخية المختلفة، وتصنيفها وتحليلها إلى إنتاج سردية أخرى
لم تكترث بمخالفة الرواية الرسمية، بل كان همها البحث عن الحقيقة التاريخية بغض
النظر عن اعتبارات السياسية والإيديولوجيا، فانتهى إلى إثبات الدور الحضاري الذي
قام به الإسلام في الأندلس، والتأكيد على أن المسلمين أو الفتح الإسلامي لم يكن
احتلالا ولا غزوا ولا استعمارا، وإنما كان ثورة تنويرية بكل المعاني والمقاييس.
وهي الخلاصة التي كان لا بد له من دفع ثمنها وكلفتها، وذلك بالهجر والتصنيف
“العلمي والمعرفي” السلبي، وتآمر دور النشر والمطابع على عدم طبع كتابه
بعد أن اتصل بخمس دور نشر في الموضوع، بل لم يجد داخل وسائل الإعلام والمجلات
التاريخية العلمية من يرغب في أن يكتب ملخصا تعريفيا أو حتى نقديا حول مضمون
كتابه.
الفتح الإسلامي لم يكن استعمارا وإنما ثورة تنويرية في إسبانيا
ولا غرو إن كان السبب في هذا التعتيم الإعلامي وهذا التجاهل من قبل دور النشر
يتعلق بمضمون الكتاب لا بقيمة كاتبه، فالجميع في إسبانيا يعترفون للمؤرخ الإسباني
بمكانته العلمية، وقدرته على تجميع الوثائق التاريخية، والتحقيق في صحتها وتصنيفها
وتحليلها والترجيح بينها بمرجحات تاريخية علمية، ودليل ذلك أن كتابه “انحطاط
إسبانيا” الذي نشره سنة 1965، لقي نجاحا منقطع النظير في الوسط الأكاديمي
الإسباني، إنما كان السبب في ذلك مرتبطا بالمضمون أو قل للدقة، للرسالة التي
تضمنها الكتاب، إذ أنه نسف بالكامل أطروحة “الاستعمار الإسلامي”
لإسبانيا، ونسف كل الأطروحات اليمينة المحافظة التي كيفت الرأي العام الإسباني حول
طبيعة الوجود الإسلامي في الأندلس، وأكدت أن هذا الوجود الإسلامي لم يكن وجودا
عسكريا ولا جهادا مسلحا يتوخى التمدد الديني، بل كان في الجوهر حركة تنويرية تستند
إلى الأفكار التي تصوغ رؤية حول العالم ولمركز الإنسان فيها، فأكد الكتاب أن
الإسلام الذي اقترح على الأندلس من قبل الوجود الإسلامي لا علاقة له بثقافة القوة
وثقافة العنف وفرض المعتقد بقوة السيف، وإنما هو إسلام احتضن أفكارا امتلكت قدرة
حوارية هائلة، بل قدرة إنجازية كبيرة، تضمنت رؤية لكيفية بناء الإنسان وبناء ثقافة
جديدة بل وبناء حضارة تتمتع بكل المواصفات الجمالية والعمرانية.
وطبيعي أن يقاوم الوسط الأكاديمي الإسباني هذا الكتاب ويعارضه، وهو المحكوم بسيطرة
النظرة الكلاسيكية المحافظة على البحث التاريخي النقدي، فالكتاب لا يساير هذه
الأطروحة المحافظة، بل يراجعها ويجدد عناصرها، بل يعيد تركيب الصورة من جديد بشكل
جريء لم يتحمله هذا الوسط، مما اضطر المؤرخ إلى البحث عن ناشر لكتابه خارج
إسبانيا، فاستطاع أن يحرك بعض علاقاته الأكاديمية للوصول إلى دار نشر فرنسية
(فلاماريون) وينشر كتابه سنة 1969 بعد أن كان جاهزا للنشر منذ سنة 1959 وبعد ست
سنوات كاملة من البحث عن دار نشر إسبانية تستطيع أن تتحمل جرأته ومضمون كتابه الذي
نظر إليه على أساس أنه يعادي الرواية الكلاسيكية المحافظة في إسبانيا عن دور
الإسلام بالأندلس، وبعد نشر الكتاب في فرنسا، سيتم الانفتاح جزئيا على نشر الكتاب
في إسبانيا بشرط تغيير عنوانه، إذ أقدمت دار نشر إسبانية (خوان مارتش) على نشره
سنة 1974، وسيبقى التحفظ على العنوان الأصلي للكتاب حتى سنة 2004، وسيتم نشره
بعنوان مختلف من طرف دار نشر أخرى إسبانية (دار النشر القرطبية بلوراباي)، ولم يتم
التسامح مع عنوان الكتاب الأصلي إلا في سنة 2017 إذ نشرته دار نشر قرطبية
(ألموثارا) بعنوانه الأصلي.
لقد كانت أطروحة الكتاب بمثابة انقلاب جذري في الراوية التاريخية التي تخص الوجود
الإسلامي في إسبانيا، بشكل استفز اليمين المحافظ واستفز الأطروحات والمسلمات التي
تأسست عليها الرواية الكلاسيكية للتاريخ الإسباني وتاريخ الأندلس على وجه خاص،
وصاغ رؤية نقدية متحللة من الاعتبارات الإيديولوجية، ومتصفة بقدر كبير من الإنصاف
وعدم التحيز، ومؤسسة لروح تسامح مع الماضي، ومتحررة بشكل كامل من روح الصراع
والضغينة والحقد الديني والعرقي، ومؤسسة لعلاقات تاريخية بين الضفتين.
بين الاستعمار والفتح وشرعية الطرد الإسباني للموريسكيين
على أن ما ينبغي الإشارة إليه في هذا الصدد أن الكتاب بصناعته البحثية الثقيلة،
ليس من صنف الكتب المتيسر قراءتها للجميع، فهو كتاب نخبة النخبة من المتخصصين، ليس
فقط في التاريخ، وليس في تاريخ إسبانيا فسحب، بل للمتخصصين في حيثية واحدة تتعلق
بالوجود الإسلامي في إسبانيا، إذ ليس ميسورا لغير المتخصصين في هذه الحقبة
أن يتابعوا الكم الهائل من الوثائق والمراسلات والمؤلفات التي جمعها المؤرخ ودقق
في صحتها وأعاد تصنيفها وتحليليها وقراءتها بروح نقدية متجردة، لينتهي من خلالها
إلى توصيف طبيعة الوجود الإسلامي في إسبانيا، وهل كان استعمارا واحتلالا بقوة
السيف وما أعقب ذلك من تمدد ديني أو اضطهاد ديني كما تسوغ ذلك الرواية الكلاسيكية
المدعومة من طرف اليمين المحافظ، أم كان فتحا سلميا يعتمد بالأساس على الأفكار
والحوار ونشر الثقافة والحضارة في وسط كان يعيش في ظلام القرون الوسطى.
قد يبدو الحفر في هذه الحيثية من غير طائل كبير
بالنسبة للرأي العام الإسباني، فهذا تاريخ مضى، والمسلمون عادوا من حيث أتوا، أو
على الأقل خرجوا (أخرجوا)من إسبانيا وتركوها لأهلها، لكن القضية تأخذ أبعادا أخرى
من زاويتين: أولهما، الرؤية التي يتمثلها الإسبان عن الإسلام ودوره في الأندلس،
والمزاج الذي يتشكل طبقا لرواية اليمين المحافظ في إسبانيا، وما يعقب ذلك من روح
الحقد والضغينة المنافية للتسامح بين الشعوب، أما الزاوية الثانية، فتتعلق بتوصيف
طبيعة إخراج المورسكيين من إسبانيا، وهل كان جوابا عادلا بمقتضى ما تزكيه الرواية
الكلاسيكية التي يغديها اليمين المحافظ أم كان طردا غير شرعي بمقتضى ما تثبه رواية
مؤرخ يتصف بكل مقومات الإنصاف والتجرد والتحرر من الاعتبارات الإيديولوجية
والسياسية.
تكمن أهمية الكتاب في كونه عرى الرواية الرسمية، وأثبت عدم شرعية طرد المورسكيين
من إسبانيا، بل أثبت روح الحقد الإسباني الذي شرعن عملية انتهاك فظيع لحق
المورسكيين في العيش بأمان في بلادهم، بعد أن لم يكن ذبنهم سوى اعتناق الإسلام.
أطروحة الكتاب الرئيسة، أن الإسلام لم يأت إلى الأندلس عبر السيف ولا الغزو
العسكري، وإنما جاء ثمرة تقبل الإسبان له، وذلك بسبب تقارب العقيدة المسيحية
الأريوسية التي كانت سائدة قبل مجيء المسلمين، والتي كانت تقترب بشكل كبير من
عقيدة التوحيد، إذ كانت ترفض عقيدة التثليث، فوجد الإسبان في منطقة الأندلس أن
الإسلام يناسب معتقدهم وينسجم معه، وهو ما سهل اندماجهم فيه واعتناقهم له.
معركة الوثائق وصراع الحقائق
ليس الأمر سهلا من أجل إبطال أسطورة بنت وصاغت الوعي الإسباني لقرون، وأصعب منه أن
تبني أطروحة بديلة ومناقضة وينظر إليها على أساس أنها تعادي المزاج الكلاسيكي
المدعوم من قبل اليمين المحافظ، فذلك يقتضي معركة ليس في عالم الإيديولوجيا،
ولكنها معركة في الوثائق والحفريات التاريخية الدفينة.
يؤكد المؤرخ أغناسيو حقيقة توثيقية تاريخية مرة، كون وثائق تاريخ الأندلس أتلفت،
وأن ما بيد القارئ عن تلك الحقبة التاريخية، هو كتابات تاريخية تعود للقرن السابع
الميلادي، أي بعد الواقعة التاريخية بعقود كثيرة.
وفي مثل هذه الحالة، لا يتوقف المؤرخ عند حدود هذه الكتابات التاريخية المتأخرة،
بل يفعل ما يفعله المؤرخون النقاد حينما تضمر الوثائق بين أيديهم، فيلجأون إلى
الوثائق الأخرى التي تغطي مختلف الحقول المعرفية غير حقل التاريخ بالمعنى الخاص،
فيلجأون إلى حقل الجغرافيا والهندسة المعمارية والإثنوغرافيا وعلم الحفريات وغيرها
من الحقول المعرفية كما فعل أغنواسيو لبناء أطروحته الجديدة على أساس من النقد
التاريخي الموضوعي المتحرر من أساطير ومسلمات الرواية الكلاسيكية.
هذا، ويضم الكتاب مقدمة وثلاثة أبواب فضلا عن الملاحق (أربعة ملاحق)، حيث خصص
مقدمته الأدبية الرفيعة إلى دعوة القارئ إلى اكتشاف اسرار الحضارة الإسلامية في
الأندلس وتأمل جوانب جماليتها العمرانية وروحها السارية في هذا العمران الإسلامي
المتميز، ثم يستعرض المشكلة التاريخية في الباب الأول، والمتعلقة بتوصيف طبيعة
أربعة أحداث رئيسة شكل الوسط الكلاسيكي الإسباني روايته على أساسها: وهي غزو
الوجود الإسلامي للغرب، والهجمة على تونس، وغزو شمال إفريقية وغزو شبه جزيرة إيبيريا.
فيقدم المؤرخ مسلمات الرواية المدرسية الكلاسيكية الرائجة التي تصور حالة من
الاستفراد العربي بالأندلس واختفاء العنصر الإسباني منها تماما، وتحول الأندلس
كلها إلى إمارة عربية خالصة، إذ يشكك المؤرخ في هذه الرواية، ويطرح سؤال اختفاء
الإسبان، وهل بالإمكان أن يكونوا ذبحوا بالكامل، وهم كانوا يشكلون الملايين
ليستفرد العرب بحكم الأندلس، وهل كانت الشروط الجغرافية والتقنية تسمح بإنجاز
مجازر جماعية بالشكل الذي صورته الروايات الرسمية خاصة وأن العرب الذين قدموا إلى
إسبانيا كانوا عددا قليلا؟
سيقوم المؤرخ بتقديم نقد عام للتاريخ الإسباني لهذه
الفترة، مستعملا جميع أدوات النقد التاريخي العلمي، لينتهي من خلال استحضار
الوثائق من حقول معرفية مختلفة إلى نسف الأطروحة الرسمية، وإثبات أطروحة جديدة
بسطها في الباب الثاني، والتي انتصر فيها لفكرة أن الوجود الإسلامي في إسبانيا
(الأندلس) كان ثورة إسلامية بررها الالتقاء والانسجام بين العقيدة المسيحية
الأريوسية وبين عقيدة التوحيد وما اعقبه من تقبل الإسبان في الأندلس للإسلام
واندماجهم الكلي فيه وقبولهم العيش في كنفه.
أما في الباب الثالث، فيخصصه المؤرخ لدراسة معالم الفن الأندلسي محاولا تقديم جواب
عن سر بناء مسجد قرطبة، حيث ينتصر لفكرة أن المسجد بني قبل 200 سنة من تاريخ الغزو
المزعوم، ويختم كتابه بعرض أربعة ملاحق أساسية تضع القارئ في صورة الموضوع وتعينه
على فهم أطروحته وإثبات حجتها.