“التعديل الثالث عشر”.. وتاريخ العنصرية في أمريكا
منذ اشتعلت الاحتجاجات في أمريكا والعالم بعد مقتل جورج فلويد، أخذ الإعلام العالمي والمثقفون يستعيدون بعض الأعمال المهمة التي عالجت قضية العنصرية في أمريكا، والتاريخ الدموي للأمريكيين الأفارقة. من حين لآخر، كانت اعتداءات رجال الشرطة البيض على أمريكيين سود، تثير بعض اللغط وبعض المظاهرات المحدودة. لكن هذه المرة اختلف الأمر.
يربط بعض المحللين هذا المستوى المفاجئ من الغضب بسياقات أوسع مثل تهديد مرض
كورونا وشبح الركود الاقتصادي وما استتبعه من ارتفاع معدلات البطالة والكساد، وهو
ما تضررت منه الطبقات الأفقر، التي يمثل السود والملونون أغلبية واضحة داخلها.
قد يكون لذلك الافتراض وجاهته، لكنه لا يلغي التاريخ الطويل لاضطهاد السود في
أمريكا. من هنا أعاد كثير من المدوّنين على شبكات التواصل مناقشة بعض الأفلام
والمسلسلات التي ناقشت تلك القضية من قبل. وكالعادة كان لشبكة نتفليكس نصيب وافر
من تلك الأعمال التي تسعى إلى فتح الجروح لا تغطيتها وتجاهلها، كنهج أساسي
لعلاجها.
في هذا السياق، عاد الفيلم الوثائقي الهام “13 TH” (وتُرجِم إلى: التعديل
الثالث عشر) إلى الواجهة، فهو أحد أهم الوثائقيات التي قاربت مشكلات الأمريكيين
السود من منظور توثيقي وتحليلي. صدر الفيلم سنة 2016، ورُشِّح إلى القائمة القصيرة
لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي، كما فاز بجائزة إيمي، وغيرها من جوائز الأفلام
الوثائقية.
مخرجة الفيلم هي المخرجة المعروفة آفا دوفيرناي، التي أخرجت مسلسل نتفليكس الشهير
أيضا “عندما يروننا”، وقد تناولناه من قبل في مقال سابق. وهي تحضّر
لفيلم جديد عن حياة المغني الأسمر برنس، أحد رموز موسيقى الروك.
يبدأ الفيلم بصفعة مباغتة. فقد درج الناس على اعتبار التعديل الثالث عشر من
الدستور الأمريكي، (الذي منح السود حريتهم)، واحدا من الإنجازات الدستورية الكبرى.
لكنّ الفيلم يدحض هذا الوهم الشائع. يثبت الفيلم أن نص التعديل احتوى على جملة
هدمت كثيرا من محتواه، وساعدت على استرقاق السود بطرق ملتوية.
هذا يعود بنا إلى موضوع التعديل. فقد صدر ضمن تعديلات على الدستور الأمريكي في
مرحلة ما بعد الحرب الأهلية الأمريكية التي كان سببها الأساسي تحرير العبيد.
وبانتصار جيش الاتحاد الذي فرض إرادة الولايات الشمالية، تحرر العبيد الأمريكيون،
واستلزم ذلك تعديلا دستوريا. في ديسمبر 1865 أُقرّ التعديل الذي ألغى العبودية
والاسترقاق الجبري إلا ما يُطبَّق منها باعتباره عقوبة على إحدى الجرائم.
هذا الاستثناء سمح لكثير من الولايات الجنوبية التي اعتمدت على العبودية،
بالاستمرار في استرقاق السود بعد تحررهم. ببساطة كان السود يُعتَقَلون لأهون
الأسباب مثل التسكع أو التسول، ويُعاقبون باسترقاقهم، وهو ما سمح بإجبارهم على
العمل الشاق بلا مقابل، وهذا كان جوهر العبودية التي كافحوا للتحرر منها.
هذا كان مدخل الفيلم للإجابة على سؤاله الأساسي: لماذا تشكل أمريكا 5 % من سكان
العالم بينما يمثل عدد سجنائها 25 % من سجناء العالم؟ خاصة أن نسبة السود بين
السجناء كانت دائما أعلى بكثير من نسبتهم من سكان أمريكا.
اعتمدت المخرجة دوفيرناي على التنويع في السرد ما بين شهادات مباشرة يقدمها أسانذة
متخصصون ونشطاء في الحريات المدنية وسياسيون ومشرِّعون وسجناء سابقون أيضا، بينما
تخلّلتْ شهاداتهم إحصائيات موثقة عن أعداد السجناء في فترات تاريخية متعاقبة. كما
اعتمدت على تقنيات جرافكس متطورة تضمنت بعض الرسوم التوضيحية وبعض الرسوم المتحركة
أيضا للتعبير الرمزي عن بعض المعاني كالحرية، ولعبت على التشكيل اللوني في الخطوط
الأفقية لعلم أمريكا والخطوط الأفقية لملابس السجناء هناك.
أيضا ضفّرَت بعض الأغاني التي غناها فنانون من السود للدفاع عن قضاياهم، في نسيج
الفيلم، كنوع من الفواصل الموسيقية التي تدخلنا في الجو النفسي المرتبط بالسرد، مع
خلفيات من كلمات الأغاني المعروضة، مكتوبة باللون الأبيض على خلفية سوداء.
بإسهاب ركزتْ المخرجة على بعض المعطيات المهمة، التي تتقاطع مع مشكلاتنا السياسية
اليوم في العالم العربي.
مثلا: توضح كيف لعبت البروباغندا الإعلامية دورا بالغ السوء في وصم السود، والحركة المدنية التي طالبت بحقوقهم، وكيف ظل الإعلام الأمريكي طيلة عقود يربط ارتفاع معدلات الجريمة بزعماء الحركة المدنية السود، وكيف كان السياسيون الأمريكيون من الحزب الجمهوري أولا ثم الديمقراطي ثانيا، يلعبون على وتر خوف المواطن الأمريكي من انفلات الأمن، وكيف مارس هؤلاء السياسيون عنصرية مبطنة ظاهرها حماية أمن المواطن الأمريكي وباطنها مزيدٌ من التفرقة العنصرية وقمع السود.
لعبت المخرجة على عنصر اللون، فقد كانت رسوماتها التوضيحية كلها بالأبيض والأسود،
مع مستوى من الإعتام العام في المشاهد. كما تقصّت طويلا في أرشيف الإعلام
الأمريكي، لتعرض لنا كيف كانت نشرات الأخبار تنتقي صورا لمواطنين سود مقيدين
بالأغلال يُساقون إلى عربات الشرطة وإلى المحاكم.
كانت المشكلة الأساسية أن الإحصائيات لم تثبت أن السود كانوا يرتكبون الجرائم وحدهم، كان منهم مجرمون مثلما بين البيض مجرمون، لكن الإعلام ركّز على تقديم السود باعتبارهم مجرمين متوحشين، ولم يكن ثمة فيس بوك وقتها.
كان الإعلام هو المصدر الذي تلقى منه الشعب معلوماته.
بتفصيل دقيق، استعرضت دوفيرناي السياسات الأمريكية لنكسون ثم ريغان ثم بوش الأب ثم
كلينتون وأثرها في مضاعفة عدد السجناء السود، وكيف كانت الحرب على المخدرات مصطلحا
كاذبا للتغطية على سجن السود بمعدلات أعلى، وكيف صكّ بعضهم مصطلحات روجها الإعلام
مثل: “المفترسون الخارقون” ليصدق الجميع أنها تنطبق على الشباب السود
الذين تتصدر صورهم وسائل الإعلام، مع أن بعضهم بُرِّئوا من التهم التي اعتقلوا
بسببها.
وبشكل رسمي، اعتمد الكونغرس تشريعات جائرة، تقتضي أن يقضي المواطن نفس المدة في
السجن بسبب حمله 100 غرام من مخدر الكراك الرخيص المنتشر بين السود، وكذلك حمله 3
كيلوغرامات من الكوكايين المنتشر بين البيض، مع أن كليهما نوعان من المخدرات
المحظورة. كان واضحا أن استهداف السود هو المطلوب.
وعلى نحو بالغ الدقة، توغل الفيلم في كواليس صناعة القرار الأمريكي، كاشفا عن
آليات فاسدة تسمح لذوي النفوذ الاقتصادي بالتأثير على المشرِّعين.
المثال الذي قدّم الفيلم تشريحا دقيقا لملابساته هو النادي السياسي “أليك”، وهو ناد يجمع رجال أعمال بسياسيين، يدافع عن مصالح الشركات الكبرى. من ذلك مثلا ما أثبته الفيلم من تأثير شركة وول مارت الكبرى، التي تعد من أكبر بائعي السلاح في العالم، على المشرعين الجمهوريين الذين أقروا تشريعا سيئا في ولاية فلوريدا، هو “دافع عن أرضك”.
سمح التشريع بأن يستخدم المواطن سلاحه إذا اعتقد أن أحدا يهاجمه. تحت هذه المظلة
قتل المواطن الأبيض زيمرمان مراهقا أسود هو مارتن ترايفون، بينما كان زيمرمان
يطارده بسلاحه في الحي، أي أنه لم يكن يدافع عن نفسه، بل كان هو المهاجم، وهذا
يكشف لنا كيف استخدمت القوانين لتكريس مزيد من العنصرية، وأيضا لدعم مصالح شركة كبرى
مثل وول مارت، التي استفادت من التشريع في بيع مزيد من الأسلحة.
القضايا التي عالجها الفيلم كثيرة وشائكة بحيث لا يكفي مقال واحد لتحليل كل
قضاياه، لكنه كان جرعة قوية، مكثفة من الأدلة التي تشرح لنا لماذا أصبح الأمريكي
الأسود يُقتل بالطريقة التي قُتل بها جورج فلويد.
حرصت المخرجة على تنويع مصادر سردها، واستعانت بموسيقى تصويرية موفقة للغاية،
عبّرت عن التوترات الكثيرة المتتالية التي أنتجها السرد.